تفسير القرطبي (صفحة 3439)

وأموالهم الجنة، وَعَلَى ذَلِكَ بَايَعَهُمْ يَوْمَ الْمِيثَاقِ، فَمَنْ وَفَّى بِذَلِكَ الْعَهْدِ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ ذَهَبَ بِرَقَبَتِهِ يخلد في النار بمقدار دوام السموات وَالْأَرْضِ، فَإِنَّمَا دَامَتَا لِلْمُعَامَلَةِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فِي الْجَنَّةِ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ، فَإِذَا تَمَّتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ وَقَعَ الْجَمِيعُ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ" (?) [الدخان: 39] فَيَخْلُدُ أَهْلُ الدَّارَيْنِ بِمِقْدَارِ دَوَامِهِمَا، وَهُوَ حَقُّ الرُّبُوبِيَّةِ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ مِنَ الْعَظَمَةِ، ثُمَّ أَوْجَبَ لَهُمُ الْأَبَدَ فِي كِلْتَا الدَّارَيْنِ لِحَقِّ الْأَحَدِيَّةِ، فَمَنْ لَقِيَهُ مُوَحِّدًا لِأَحَدِيَّتِهِ بَقِيَ فِي دَارِهِ أَبَدًا، وَمَنْ لَقِيَهُ مُشْرِكًا بِأَحَدِيَّتِهِ إِلَهًا بَقِيَ فِي السِّجْنِ أَبَدًا، فَأَعْلَمَ اللَّهُ الْعِبَادَ مِقْدَارَ الْخُلُودِ، ثُمَّ قَالَ:" إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ" مِنْ زِيَادَةِ الْمُدَّةِ الَّتِي تَعْجَزُ الْقُلُوبُ عَنْ إِدْرَاكِهَا لِأَنَّهُ لَا غَايَةَ لَهَا، فَبِالِاعْتِقَادِ دَامَ خُلُودُهُمْ فِي الدَّارَيْنِ أَبَدًا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ" إِلَّا" بِمَعْنَى الْوَاوِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَبَعْضُ أَهْلِ النظر وهوالثامن- وَالْمَعْنَى: وَمَا شَاءَ رَبُّكَ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي الخلود على مدة دوام السموات وَالْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا" (?) [البقرة: 150] أَيْ وَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَقَالَ الشَّاعِرُ (?):

وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرِ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ

أَيْ وَالْفَرْقَدَانِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ: وَهَذَا قَوْلٌ بَعِيدٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ تَكُونَ" إِلَّا" بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" (?) بَيَانُهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَمَا شَاءَ رَبُّكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ" (?) [النساء: 22] أي كما قد سلف، وهوالتاسع، الْعَاشِرُ- وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:" إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ" إِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي كُلِّ كَلَامٍ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ" (?) [الفتح: 27] فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ فِي وَاجِبٍ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي حُكْمِ الشَّرْطِ كَذَلِكَ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ شَاءَ رَبُّكَ، فَلَيْسَ يُوصَفُ بِمُتَّصِلٍ وَلَا مُنْقَطِعٍ، وَيُؤَيِّدُهُ وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ" وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: تَقَدَّمَتْ عَزِيمَةُ الْمَشِيئَةِ من الله تعالى في خلود

طور بواسطة نورين ميديا © 2015