تفسير القرطبي (صفحة 3436)

الْحُجَّةِ: مَا تَكَلَّمْتَ بِشَيْءٍ، وَمَا نَطَقْتَ بِشَيْءٍ، فَسُمِّيَ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِلَا حُجَّةٍ فِيهِ لَهُ غَيْرَ مُتَكَلِّمٍ. وَقَالَ: قَوْمٌ: ذَلِكَ الْيَوْمُ طَوِيلٌ، وَلَهُ مَوَاطِنُ وَمَوَاقِفُ فِي بَعْضِهَا يُمْنَعُونَ مِنَ الْكَلَامِ، وَفِي بَعْضِهَا يُطْلَقُ لَهُمُ الْكَلَامُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَتَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ. (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) أَيْ مِنَ الْأَنْفُسِ، أو من الناس، وقد ذكرهم قَوْلِهِ:" يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ". وَالشَّقِيُّ الَّذِي كُتِبَتْ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةُ. وَالسَّعِيدُ الَّذِي كُتِبَتْ عَلَيْهِ السَّعَادَةُ، قَالَ لَبِيَدٌ:

فَمِنْهُمْ سَعِيدٌ آخِذٌ بِنَصِيبِهِ ... وَمِنْهُمْ شَقِيٌّ بِالْمَعِيشَةِ قَانِعُ

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ" فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ" سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَعَلَامَ نَعْمَلُ؟ عَلَى شي قد فرغ منه، أو على شي لم يفرغ منه؟ فقال:" بل على شي قَدْ فُرِغَ مِنْهُ وَجَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ يَا عُمَرُ وَلَكِنْ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ". قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْأَعْرَافِ" (?). قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) ابْتِدَاءٌ. (فَفِي النَّارِ) فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَكَذَا (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الزَّفِيرُ مِنَ الصَّدْرِ. وَالشَّهِيقُ مِنَ الْحَلْقِ، وَعَنْهُ أَيْضًا ضِدُّ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الزَّفِيرُ مِنْ شِدَّةِ الْأَنِينِ، وَالشَّهِيقُ مِنَ الْأَنِينِ الْمُرْتَفِعِ جِدًّا، قَالَ: وَزَعَمَ أَهْلُ اللُّغَةِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الزَّفِيرَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ صَوْتِ الْحَمِيرِ فِي النَّهِيقِ، وَالشَّهِيقَ بِمَنْزِلَةِ [آخِرِ] صَوْتِ الْحِمَارِ فِي النَّهِيقِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَكْسَهُ، قَالَ: الزَّفِيرُ الصَّوْتُ الشَّدِيدِ، وَالشَّهِيقُ الصَّوْتُ الضَّعِيفُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: الزَّفِيرُ مِثْلُ أَوَّلِ نَهِيقِ الْحِمَارِ، وَالشَّهِيقُ مِثْلُ آخِرِهِ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَوْتِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ (?):

حَشْرَجَ فِي الْجَوْفِ سَحِيلًا (?) أَوْ شَهَقْ ... حَتَّى يُقَالَ نَاهِقٌ وَمَا نَهَقْ

وَقِيلَ: الزَّفِيرُ إِخْرَاجُ النَّفَسِ، وَهُوَ أَنْ يَمْتَلِئَ الْجَوْفُ غَمًّا فَيَخْرُجُ بِالنَّفَسِ، وَالشَّهِيقُ رَدُّ النَّفَسِ وَقِيلَ: الزَّفِيرُ تَرْدِيدُ النَّفَسِ مِنْ شِدَّةِ الْحُزْنِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الزَّفْرِ وَهُوَ الْحَمْلُ عَلَى الظَّهْرِ لِشِدَّتِهِ،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015