تفسير القرطبي (صفحة 3350)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ) أَيْ فَلَعَلَّكَ لِعَظِيمِ مَا تَرَاهُ مِنْهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ تَتَوَهَّمُ أَنَّهُمْ يُزِيلُونَكَ عَنْ بعما أنت عليه. وقيل: إنهم لما قالوا:" لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ" هَمَّ أَنْ يَدَعَ سَبَّ آلِهَتِهِمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَالْكَلَامُ مَعْنَاهُ الِاسْتِفْهَامُ، أَيْ هَلْ أَنْتَ تَارِكٌ مَا فِيهِ سَبُّ آلِهَتِهِمْ كَمَا سَأَلُوكَ؟ وَتَأَكَّدَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي الْإِبْلَاغِ، كَقَوْلِهِ:" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ" «1» [المائدة: 67]. وقيل: معنى الكلام النفي اسْتِبْعَادٍ، أَيْ لَا يَكُونُ مِنْكَ ذَلِكَ، بَلْ تُبَلِّغُهُمْ كُلَّ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَذَلِكَ أَنَّ مُشْرِكِي مَكَّةَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَتَيْتَنَا بِكِتَابٍ لَيْسَ فِيهِ سَبُّ آلِهَتِنَا لَاتَّبَعْنَاكَ، فَهَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدَعَ سَبَّ آلِهَتِهِمْ، فَنَزَلَتْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) عَطْفٌ عَلَى" تارِكٌ" وَ" صَدْرُكَ" مَرْفُوعٌ بِهِ، وَالْهَاءُ فِي" بِهِ" تَعُودُ عَلَى" مَا" أَوْ عَلَى بَعْضَ، أَوْ عَلَى التَّبْلِيغِ، أَوِ التَّكْذِيبِ. وَقَالَ:" ضائِقٌ" وَلَمْ يَقُلْ ضَيِّقٌ لِيُشَاكِلَ" تارِكٌ" الَّذِي قَبْلَهُ، وَلِأَنَّ الضَّائِقَ عَارِضٌ، وَالضَّيِّقَ أَلْزَمُ مِنْهُ." (أَنْ يَقُولُوا) " فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَقُولُوا، [أَوْ لِئَلَّا يَقُولُوا «2»] كَقَوْلِهِ:" يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا" «3» [النساء: 176] أي لئلا تضلوا. أو لأن يقولوا. (ذَلُولًا) أَيْ هَلَّا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) يُصَدِّقُهُ، قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ المخزومي، فقال الله تعالى: يا محمد (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) إِنَّمَا عَلَيْكَ أَنْ تُنْذِرَهُمْ، لَا بِأَنْ تَأْتِيَهُمْ بِمَا يَقْتَرِحُونَهُ مِنَ الْآيَاتِ. (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي حافظ وشهيد. قوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) " أَمْ" بِمَعْنَى بَلْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" يُونُسَ" «4» أَيْ قَدْ أَزَحْتَ عِلَّتَهُمْ وَإِشْكَالَهُمْ فِي نُبُوَّتِكَ بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَحَجَجْتَهُمْ بِهِ، فَإِنْ قَالُوا: افْتَرَيْتَهُ- أَيِ اخْتَلَقْتَهُ- فَلْيَأْتُوا بِمِثْلِهِ مُفْتَرًى بِزَعْمِهِمْ. (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أَيْ مِنَ الكهنة والأعوان.

[سورة هود (11): آية 14]

فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015