تفسير القرطبي (صفحة 3246)

قُلْتُ: وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ، إِنَّهُمْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. سَمِعْتُ شَيْخَنَا الْأُسْتَاذَ الْمُقْرِئَ النَّحْوِيَّ الْمُحَدِّثَ أَبَا جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ الْقَيْسِيُّ الْقُرْطُبِيَّ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ أَبِي حَجَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) إِنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ، قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ الْغَرْبَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يُطْلَقُ عَلَى الدَّلْوِ الْكَبِيرَةِ وَعَلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، وَيُطْلَقُ عَلَى فَيْضَةٍ مِنَ الدَّمْعِ. فَمَعْنَى (لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ) أَيْ لَا يَزَالُ أَهْلُ فَيْضِ الدَّمْعِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَنْ عِلْمٍ بِهِ وَبِأَحْكَامِهِ ظَاهِرِينَ، الْحَدِيثَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ" «1» [فاطر: 28]. قُلْتُ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَعْضُدُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَلَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (. وَظَاهِرُ هَذَا الْمَسَاقِ أَنَّ أَوَّلَهُ مُرْتَبِطٌ بِآخِرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة التوبة (9): آية 123]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)

فيه مسألة واحدة- وهو أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَرَّفَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْجِهَادِ وَأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنَ الْعَدُوِّ وَلِهَذَا بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَرَبِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَصَدَ الرُّومَ وَكَانُوا بِالشَّامِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَهِيَ مِنَ التَّدْرِيجِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقْتَ نُزُولِهَا الْعَرَبُ، فَلَمَّا فرغ منهم نزلت في الروم وغير هم:" قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" «2» [التوبة: 29]. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الدَّيْلَمُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ بِمَنْ يُبْدَأُ بِالرُّومِ أَوْ بِالدَّيْلَمِ؟ فَقَالَ بِالرُّومِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ قِتَالُ الدَّيْلَمِ وَالتُّرْكِ وَالرُّومِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْآيَةُ عَلَى الْعُمُومِ فِي قِتَالِ الْأَقْرَبِ فالأقرب، والأدنى فالأدنى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015