تفسير القرطبي (صفحة 3237)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) فَبَدَأَ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: غَلِطْتُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: فِي الِابْتِدَاءِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، ظَنَنْتُ أَنِّي أُحِبُّهُ فَإِذَا هُوَ أَحَبَّنِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ" [المائدة: 54]. وَظَنَنْتُ أَنِّي أَرْضَى عَنْهُ فَإِذَا هُوَ قَدْ رَضِيَ عَنِّي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ" [المائدة: 119]. وَظَنَنْتُ أَنِّي أَذْكُرُهُ فَإِذَا هُوَ يَذْكُرُنِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ". وَظَنَنْتُ أَنِّي أَتُوبُ فَإِذَا هُوَ قَدْ تَابَ عَلَيَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا". وَقِيلَ: الْمَعْنَى ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَثْبُتُوا عَلَى التَّوْبَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا" «1» [النساء: 136] وَقِيلَ: أَيْ فَسَّحَ لَهُمْ وَلَمْ يُعَجِّلْ عِقَابَهُمْ كما فعل بغير هم، قال عز وجل:" فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ" «2» [النساء: 160].

[سورة التوبة (9): آية 119]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)

فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ" هَذَا الْأَمْرُ بِالْكَوْنِ مَعَ أَهْلِ الصِّدْقِ حَسَنٌ بَعْدَ قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ حِينَ نَفَعَهُمُ الصِّدْقُ وَذَهَبَ بِهِمْ عَنْ مَنَازِلِ الْمُنَافِقِينَ. قَالَ مُطَرِّفٌ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: قَلَّمَا كَانَ رَجُلٌ صَادِقًا لَا يَكْذِبُ إِلَّا مُتِّعَ بِعَقْلِهِ وَلَمْ يُصِبْهُ مَا يُصِيبُ غَيْرَهُ مِنَ الْهَرَمِ وَالْخَرَفِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ هُنَا بِالْمُؤْمِنِينَ وَالصَّادِقِينَ عَلَى أَقْوَالٍ، فَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِمَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيِ اتَّقُوا مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّهِ." وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ" أَيْ مَعَ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مَعَ الْمُنَافِقِينَ. أَيْ كُونُوا عَلَى مَذْهَبِ الصَّادِقِينَ وَسَبِيلِهِمْ. وَقِيلَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، أَيْ كُونُوا مَعَهُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:" لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ" «3» - الآية إلى قوله-" أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا" [البقرة: 177]. وَقِيلَ: هُمُ الْمُوفُونَ بِمَا عَاهَدُوا، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ «4» عَلَيْهِ" وَقِيلَ: هُمُ الْمُهَاجِرُونَ، لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ السقيفة إن الله سمانا الصادقين

طور بواسطة نورين ميديا © 2015