الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى." فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ" فَاعِلُ انْهَارَ الْجُرُفُ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَانْهَارَ الْجُرُفُ بِالْبُنْيَانِ فِي النَّارِ، لِأَنَّ الْجُرُفَ مُذَكَّرٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي بِهِ يَعُودُ عَلَى" مِنَ" وَهُوَ الْبَانِي، وَالتَّقْدِيرُ: فَانْهَارَ مِنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى غَيْرِ تَقْوَى. وَهَذِهِ الْآيَةُ ضَرْبُ مَثَلٍ لَهُمْ، أَيْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ. وَبَيَّنَ أَنَّ بِنَاءَ الْكَافِرِ كَبِنَاءٍ عَلَى جُرُفِ جَهَنَّمَ يَتَهَوَّرُ بِأَهْلِهِ فِيهَا. وَالشَّفَا: الشَّفِيرُ. وَأَشْفَى عَلَى كَذَا أَيْ دَنَا مِنْهُ. الرَّابِعَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أن كل شي ابْتُدِئَ بِنِيَّةِ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْقَصْدِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ فَهُوَ الَّذِي يَبْقَى وَيَسْعَدُ بِهِ صَاحِبُهُ وَيَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ، وَيُخْبَرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ «1») عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَيُخْبَرُ عَنْهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ «2») عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْخَامِسَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قوله تعالى:" فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ" هَلْ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ عَلَى قَوْلَيْنِ، الْأَوَّلُ- أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَهُدِمَ رؤي الدُّخَانُ يَخْرُجُ مِنْهُ، مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ الرَّجُلُ يُدْخِلُ فِيهِ سَعْفَةً مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ فَيُخْرِجُهَا سَوْدَاءَ مُحْتَرِقَةً. وَذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّهُ كَانَ يَحْفِرُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الَّذِي انْهَارَ فَيَخْرُجُ مِنْهُ دُخَانٌ. وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: جَهَنَّمُ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ تَلَا" فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ". وقال جابر ابن عَبْدِ اللَّهِ: أَنَا رَأَيْتُ الدُّخَانَ يَخْرُجُ مِنْهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّانِي- أَنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ، وَالْمَعْنَى: صَارَ الْبِنَاءُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَكَأَنَّهُ انْهَارَ إِلَيْهِ وَهَوَى فِيهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ" «3» [القارعة: 9]. وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، إِذْ لَا إِحَالَةَ فِي ذَلِكَ. والله أعلم.
لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)