تفسير القرطبي (صفحة 2997)

فَكَانَ الْإِثْخَانُ أَحَبَّ إِلَيَّ. وَالْإِثْخَانُ: كَثْرَةُ الْقَتْلِ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. أَيْ يُبَالِغُ فِي قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ. تَقُولُ الْعَرَبُ: أَثْخَنَ فُلَانٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَيْ بَالَغَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَتَّى يُقْهَرَ وَيُقْتَلَ. وَأَنْشَدَ الْمُفَضَّلُ:

تُصَلِّي الضُّحَى مَا دَهْرُهَا بِتَعَبُّدٍ ... وَقَدْ أَثْخَنْتَ فِرْعَوْنَ فِي كُفْرِهِ كُفْرًا

وَقِيلَ:" حَتَّى يُثْخِنَ" يَتَمَكَّنُ. وَقِيلَ: الْإِثْخَانُ الْقُوَّةُ وَالشِّدَّةُ. فَأَعْلَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ قَتْلَ الْأَسْرَى الَّذِينَ فُودُوا بِبَدْرٍ كَانَ أَوْلَى مِنْ فِدَائِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ، فَلَمَّا كَثُرُوا وَاشْتَدَّ سُلْطَانُهُمْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ هَذَا فِي الْأُسَارَى:" فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً" (?) [محمد: 4] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" الْقِتَالِ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا عُوتِبُوا لِأَنَّ قَضِيَّةَ بَدْرٍ كَانَتْ عَظِيمَةَ الْمَوْقِعِ وَالتَّصْرِيفِ فِي صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ وَأَشْرَافِهِمْ وَسَادَاتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِالْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالتَّمَلُّكِ. وَذَلِكَ كُلُّهُ عَظِيمُ الْمَوْقِعِ فَكَانَ حَقُّهُمْ أَنْ يَنْتَظِرُوا الْوَحْيَ وَلَا يَسْتَعْجِلُوا، فَلَمَّا اسْتَعْجَلُوا وَلَمْ يَنْتَظِرُوا تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ مَا تَوَجَّهَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- أَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلنَّاسِ: (إِنْ شِئْتُمْ أَخَذْتُمْ فِدَاءَ الْأُسَارَى وَيُقْتَلُ مِنْكُمْ فِي الْحَرْبِ سَبْعُونَ عَلَى عَدَدِهِمْ وَإِنْ شِئْتُمْ قُتِلُوا وَسَلِمْتُمْ). فَقَالُوا: نَأْخُذُ الْفِدَاءَ وَيُسْتَشْهَدُ مِنَّا سَبْعُونَ. وَذَكَرَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِسَنَدِهِ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْيِيرِ النَّاسِ هَكَذَا. وَقَدْ مَضَى فِي" آلِ عِمْرَانَ" (?) الْقَوْلُ فِي هَذَا. وَقَالَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ: طَلَبُوا الْخِيَرَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، فَقُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ. وَيَنْشَأُ هُنَا إِشْكَالٌ وَهِيَ:- الرَّابِعَةُ- وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِذَا كَانَ التَّخْيِيرُ فَكَيْفَ وَقَعَ التَّوْبِيخُ بِقَوْلِهِ" لَمَسَّكُمْ". فَالْجَوَابُ- أَنَّ التَّوْبِيخَ وَقَعَ أَوَّلًا لِحِرْصِهِمْ عَلَى أَخْذِ الْفِدَاءِ، ثُمَّ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمِقْدَادَ قَالَ حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ: أَسِيرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ الَّذِي أَسَرَ أَخَاهُ: شُدَّ عَلَيْهِ يَدَكَ، فإن له أما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015