تفسير القرطبي (صفحة 2924)

وَعَمْرًا جَالِسًا، بَلْ كَانَ يَجُوزُ فِي الِابْتِدَاءِ زَيْدًا مُنْطَلِقًا، لِأَنَّ الْمُخْبِرَ مُعْلِمٌ، وَهَذَا لَا يقوله أحد من النحويين.

[سورة الأنفال (8): الآيات 15 الى 16]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)

فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الأولى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (زَحْفاً) الزَّحْفُ الدُّنُوُّ قَلِيلًا قَلِيلًا. وَأَصْلُهُ الِانْدِفَاعُ عَلَى الْأَلْيَةِ، ثُمَّ سُمِّيَ كُلُّ مَاشٍ فِي الْحَرْبِ إِلَى آخَرَ زَاحِفًا. وَالتَّزَاحُفُ: التَّدَانِي وَالتَّقَارُبُ، يُقَالُ: زَحَفَ إِلَى الْعَدُوِّ زَحْفًا. وازدحف الْقَوْمُ، أَيْ مَشَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. وَمِنْهُ زِحَافُ الشِّعْرِ، وَهُوَ أَنْ يَسْقُطَ بَيْنَ الْحَرْفَيْنِ حَرْفٌ فَيَزْحَفُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ. يَقُولُ: إِذَا تَدَانَيْتُمْ وَتَعَايَنْتُمْ فَلَا تَفِرُّوا عَنْهُمْ وَلَا تُعْطُوهُمْ أَدْبَارَكُمْ. حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حِينَ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الْجِهَادَ وَقِتَالَ الْكُفَّارِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَدْبَارُ جَمْعُ دُبُرٍ. وَالْعِبَارَةُ بِالدُّبُرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَمَكِّنَةُ الْفَصَاحَةِ، لِأَنَّهَا بَشِعَةٌ عَلَى الْفَارِّ، ذَامَّةٌ لَهُ. الثَّانِيَةُ- أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَلَّا يُوَلِّيَ الْمُؤْمِنُونَ أَمَامَ الْكُفَّارِ. وَهَذَا الْأَمْرُ مُقَيَّدٌ بِالشَّرِيطَةِ الْمَنْصُوصَةِ فِي مِثْلَيِ الْمُؤْمِنِينَ «1»، فَإِذَا لَقِيَتْ فِئَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِئَةً هِيَ ضِعْفُ الْمُؤْمِنِينَ «2» مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَالْفَرْضُ أَلَّا يَفِرُّوا أَمَامَهُمْ. فَمَنْ فَرَّ مِنَ اثْنَيْنِ فَهُوَ فَارٌّ مِنَ الزَّحْفِ. وَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَيْسَ بِفَارٍّ مِنَ الزَّحْفِ، وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ. وَالْفِرَارُ كَبِيرَةٌ مُوبِقَةٌ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَإِجْمَاعِ الْأَكْثَرِ مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ الْمَاجِشُونَ فِي الْوَاضِحَةِ: إِنَّهُ يُرَاعَى الضَّعْفُ وَالْقُوَّةُ وَالْعِدَّةُ، فَيَجُوزُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ يَفِرَّ مِائَةُ فَارِسٍ «3» مِنْ مِائَةِ فَارِسٍ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ مَا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ النَّجْدَةِ وَالْبَسَالَةِ ضِعْفُ مَا عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الجمهور فلا يحل فرار مائة إلا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015