تفسير القرطبي (صفحة 264)

عِنْدَكَ فَمَا كَلَّفَكَ اللَّهُ مَا لَا تَقْدِرُ. فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَ عُمَرَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،

أَنْفِقْ وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالَا

فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُرِفَ السُّرُورُ فِي وَجْهِهِ لِقَوْلِ الْأَنْصَارِيِّ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بِذَلِكَ أُمِرْتُ). قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: فَخَوْفُ الْإِقْلَالِ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِاللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْأَرْضَ بِمَا فِيهَا لِوَلَدِ آدَمَ، وَقَالَ فِي تَنْزِيلِهِ:" خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً"" وسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ" [الجاثية: 13]. فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مُسَخَّرَةٌ لِلْآدَمِيِّ قَطْعًا لِعُذْرِهِ وَحُجَّةً عَلَيْهِ، لِيَكُونَ لَهُ عَبْدًا كَمَا خَلَقَهُ عَبْدًا، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ حَسَنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ لَمْ يَخَفِ الْإِقْلَالَ لِأَنَّهُ يُخْلِفُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (?) " [سبأ: 39] وقال:" فَإِنَّ رَبِّي (?) غَنِيٌّ كَرِيمٌ" [النمل: 40]، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي يَا بن آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى (?) سحا لا يغيضها شي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا وَمَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا (. وَكَذَا فِي الْمَسَاءِ عِنْدَ الْغُرُوبِ يُنَادِيَانِ أَيْضًا، وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. فَمَنَ اسْتَنَارَ صَدْرُهُ، وَعَلِمَ غِنَى رَبِّهِ وَكَرَمِهِ أَنْفَقَ وَلَمْ يَخَفِ الْإِقْلَالَ، وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَتْ شَهَوَاتُهُ عَنِ الدُّنْيَا وَاجْتَزَأَ بِالْيَسِيرِ مِنَ الْقُوتِ الْمُقِيمِ لِمُهْجَتِهِ، وَانْقَطَعَتْ مَشِيئَتُهُ لِنَفْسِهِ، فَهَذَا يُعْطِي مِنْ يُسْرِهِ وَعُسْرِهِ وَلَا يَخَافُ إِقْلَالًا. وَإِنَّمَا يَخَافُ الْإِقْلَالَ مَنْ لَهُ مَشِيئَةٌ فِي الْأَشْيَاءِ، فَإِذَا أَعْطَى الْيَوْمَ وَلَهُ غَدًا مشيئة في شي خَافَ أَلَّا يُصِيبَ غَدًا، فَيَضِيقُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي نَفَقَةِ الْيَوْمِ لِمَخَافَةِ إِقْلَالِهِ. رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (انْفَحِي أَوِ انْضَحِي (?) أَوْ أَنْفِقِي وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِي اللَّهُ عَلَيْكِ وَلَا تُوعِي (?) فَيُوعِي عَلَيْكِ). وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015