تفسير القرطبي (صفحة 2538)

وَالْفَضْلِ، فَإِنْ فَعَلْتَ كُنْتَ ظَالِمًا. وَحَاشَاهُ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هَذَا بَيَانٌ لِلْأَحْكَامِ، وَلِئَلَّا يَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ السَّلَامِ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ:" لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ" «1»] الزمر: 65] وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُشْرِكُ وَلَا يَحْبَطُ عَمَلُهُ." فَتَطْرُدَهُمْ" جَوَابُ النَّفْيِ." فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ" نُصِبَ بِالْفَاءِ فِي جَوَابِ النَّهْيِ، الْمَعْنَى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَمَا مِنْ حِسَابِكَ، عَلَيْهِمْ مِنْ شي فَتَطْرُدَهُمْ، عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. وَالظُّلْمُ أَصْلُهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" «2» مُسْتَوْفًى. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ قُوَّةِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُعَظَّمَ أَحَدٌ لِجَاهِهِ وَلِثَوْبِهِ «3»، وَعَنْ أَنْ يُحْتَقَرَ أَحَدٌ لِخُمُولِهِ وَلِرَثَاثَةِ ثوبيه.

[سورة الأنعام (6): آية 53]

وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أَيْ كَمَا فَتَنَّا مَنْ قَبْلَكَ كَذَلِكَ فَتَنَّا هَؤُلَاءِ. وَالْفِتْنَةُ الِاخْتِبَارُ، أَيْ عَامَلْنَاهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِينَ. (لِيَقُولُوا) نُصِبَ بِلَامِ كَيْ، يَعْنِي الْأَشْرَافَ وَالْأَغْنِيَاءَ. (أَهؤُلاءِ) يَعْنِي الضُّعَفَاءَ وَالْفُقَرَاءَ. (مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مِنَ الْمُشْكِلِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: كَيْفَ فُتِنُوا لِيَقُولُوا هَذِهِ الْآيَةَ؟ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ إِنْكَارًا فَهُوَ كُفْرٌ مِنْهُمْ. وَفِي هَذَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى اخْتُبِرَ الْأَغْنِيَاءُ بِالْفُقَرَاءِ أَنْ تَكُونَ مَرْتَبَتُهُمْ وَاحِدَةً عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَقُولُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ:" أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا" وَالْجَوَابُ الْآخَرُ: أَنَّهُمْ لَمَّا اخْتُبِرُوا بِهَذَا فَآلَ عَاقِبَتُهُ إِلَى أَنْ قَالُوا هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَصَارَ مِثْلَ قَوْلِهِ:" فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً" «4»] القصص: 8]. (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) فِيمَنْ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ دُونَ الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمُ الْكُفْرَ، وَهَذَا اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، وَهُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ:" أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا" وقل: الْمَعْنَى أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ مَنْ يَشْكُرُ الْإِسْلَامَ إذا هديته إليه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015