تفسير القرطبي (صفحة 2455)

ومعنى قوله: (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أَيْ مِنْ غَيْرِ الْقَرَابَةِ وَالْعَشِيرَةِ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى مَعْنًى غَامِضٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنًى" آخَرَ" فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ، تَقُولُ: مَرَرْتُ بِكَرِيمٍ وَكَرِيمٍ آخَرَ، فَقَوْلُهُ" آخَرُ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مَرَرْتُ بِكَرِيمٍ وَخَسِيسٍ آخَرَ، وَلَا مَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَحِمَارٍ آخَرَ، فَوَجَبَ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ:" أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ" أَيْ عَدْلَانِ، وَالْكُفَّارُ لَا يَكُونُونَ عُدُولًا فَيَصِحُّ عَلَى هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ" مِنْ غَيْرِكُمْ" مِنْ غَيْرِ عَشِيرَتِكُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ مِنْ جِهَةِ اللِّسَانِ، وَقَدْ يُحْتَجُّ بِهِ لِمَالِكٍ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ" مِنْ غَيْرِكُمْ" مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ عَلَى أَنَّهُ قَدْ عُورِضَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" فخوطب الجماعة من المؤمنين. السابعة- استدل أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، قَالَ: وَمَعْنَى" أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ" أَيْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَيُقَالُ لَهُ: أَنْتَ لَا تَقُولُ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَنْتَ لَا تَقُولُ بِهَا فَلَا يَصِحُّ احْتِجَاجُكَ بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ طَرِيقِ النُّطْقِ، وَدَلَّتْ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ طَرِيقِ التَّنْبِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلِأَنْ تُقْبَلَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْلَى، ثُمَّ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَبَقِيَ شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ قَبُولَ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فَرْعٌ لِقَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ الْأَصْلُ فَلِأَنْ تَبْطُلَ شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَهِيَ فَرْعُهَا أَحْرَى وَأَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أَيْ سَافَرْتُمْ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ" فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ" فَأَوْصَيْتُمْ إِلَى اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ فِي ظَنِّكُمْ، وَدَفَعْتُمْ إِلَيْهِمَا مَا مَعَكُمْ مِنَ الْمَالِ، ثُمَّ مُتُّمْ وَذَهَبَا إِلَى وَرَثَتِكُمْ بِالتَّرِكَةِ فَارْتَابُوا فِي أمرهما،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015