تفسير القرطبي (صفحة 2202)

بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ تَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ فِي الْوُضُوءِ فَأَمَرَ بِهِ. وَقَدْ رَوَى حُذَيْفَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (خَلِّلُوا بَيْنَ الْأَصَابِعِ لَا تُخَلِّلُهَا النَّارُ) وَهَذَا نَصٌّ فِي الْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِ التَّخْلِيلِ، فَثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- أَلْفَاظُ الْآيَةِ تَقْتَضِي الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الْأَعْضَاءِ، وَهِيَ إِتْبَاعُ الْمُتَوَضِّئِ الْفِعْلَ الْفِعْلَ إِلَى آخِرِهِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ بَيْنَ أَبْعَاضِهِ، وَلَا فَصْلَ بِفِعْلٍ لَيْسَ مِنْهُ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَابْنُ وَهْبٍ: ذَلِكَ مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ فِي الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ، فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ مُتَعَمِّدًا أَوْ نَاسِيًا لَمْ يُجْزِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يُجْزِئُهُ نَاسِيًا وَمُتَعَمِّدًا. وَقَالَ مَالِكٌ فِي" الْمُدَوَّنَةِ" وَكِتَابِ مُحَمَّدٍ: إِنَّ الْمُوَالَاةَ سَاقِطَةٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ فَرَّقَهُ مُتَعَمِّدًا لَمْ يُجْزِهِ وَيُجْزِئُهُ نَاسِيًا، وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حَبِيبٍ: يُجْزِئُهُ فِي الْمَغْسُولِ وَلَا يُجْزِئُهُ فِي الْمَمْسُوحِ، فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ ابْتُنِيَتْ (?) عَلَى أَصْلَيْنِ: الْأَوَّلُ- أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ أَمْرًا مُطْلَقًا فَوَالِ أَوْ فَرِّقْ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ وُجُودُ الْغَسْلِ فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ. وَالثَّانِي- أَنَّهَا عِبَادَاتٌ ذَاتُ أَرْكَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فَوَجَبَ فِيهَا التَّوَالِي كَالصَّلَاةِ، وَهَذَا أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَتَتَضَمَّنُ أَلْفَاظُ الْآيَةِ أَيْضًا التَّرْتِيبَ وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ، فَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: التَّرْتِيبُ سُنَّةٌ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ التَّنْكِيسَ لِلنَّاسِي يُجْزِئُ، وَاخْتُلِفَ فِي الْعَامِدِ فَقِيلَ: يُجْزِئُ وَيُرَتِّبُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: لَا يُجْزِئُ لِأَنَّهُ عَابِثٌ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ أَصْحَابِهِ، وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو مُصْعَبٍ صَاحِبُ مَالِكٍ وَذَكَرَهُ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَحَكَاهُ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَالِكٍ مَعَهُمْ فِي أَنَّ مَنْ قَدَّمَ فِي الْوُضُوءِ يَدَيْهِ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ عَلَى تَرْتِيبِ الْآيَةِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِمَا صَلَّى بِذَلِكَ الْوُضُوءِ. وَذَهَبَ مَالِكٌ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَأَشْهَرِهَا أَنَّ" الْوَاوَ" لَا تُوجِبُ التَّعْقِيبَ وَلَا تُعْطِي رُتْبَةً، وَبِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْمُزَنِيِّ وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ" يَقْتَضِي الْإِجْزَاءَ فَرَّقَ أَوْ جَمَعَ أَوْ وَالَى عَلَى مَا هو الصحيح من مذهب الشافعي،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015