تفسير القرطبي (صفحة 2190)

يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَ فِيهَا النِّيَّةُ عَلَى التَّكْبِيرِ، وَيَا لَلَّهِ وَيَا لَلْعَالَمِينَ مِنْ أُمَّةٍ أَرَادَتْ أَنْ تَكُونَ مُفْتِيَةً مُجْتَهِدَةً فَمَا وَفَّقَهَا اللَّهُ وَلَا سَدَّدَهَا!، اعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا قَوْلُ مَالِكٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ عَنْ مَرْتَبَةِ الِاتِّفَاقِ سُومِحَ فِي تَقْدِيمِهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِيهَا، وَهِيَ أَصْلٌ مَقْصُودٌ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ الْأَصْلُ الْمَقْصُودُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَلَى الْفَرْعِ التَّابِعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ! هَلْ هَذَا إِلَّا غَايَةُ الْغَبَاوَةِ؟ وَأَمَّا الصَّوْمُ فَإِنَّ الشَّرْعَ رَفَعَ الْحَرَجَ فِيهِ لَمَّا كَانَ ابْتِدَاؤُهُ فِي وَقْتِ الْغَفْلَةِ بِتَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَيْهِ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ" وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي دُخُولِ الْمَرَافِقِ فِي التَّحْدِيدِ، فَقَالَ قَوْمٌ: نَعَمْ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ" إِلَى" إِذَا كَانَ مِنْ نَوْعِ ما قبلها دخل فيه، قاله سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي" الْبَقَرَةِ" (?) مُبَيَّنًا. وَقِيلَ: لَا يَدْخُلُ الْمِرْفَقَانِ فِي الْغَسْلِ، وَالرِّوَايَتَانِ مَرْوِيَّتَانِ عَنْ مَالِكٍ، الثَّانِيَةُ لِأَشْهَبَ، وَالْأُولَى عَلَيْهَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَى مَرْفِقَيْهِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ" إِلَى" بِمَعْنَى مَعَ، كَقَوْلِهِمْ: الذَّوْدُ إِلَى الذَّوْدِ إِبِلٌ (?)، أَيْ مَعَ الذَّوْدِ، وَهَذَا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي" النِّسَاءِ" (?)، وَلِأَنَّ الْيَدَ عِنْدَ الْعَرَبِ تَقَعُ عَلَى أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ إِلَى الْكَتِفِ، وَكَذَلِكَ الرِّجْلُ تَقَعُ عَلَى الْأَصَابِعِ إِلَى أَصْلِ الْفَخِذِ، فَالْمِرْفَقُ دَاخِلٌ تَحْتَ اسْمِ الْيَدِ، فَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى مَعَ الْمَرَافِقِ لَمْ يُفِدْ، فَلَمَّا قَالَ:" إِلَى" اقْتَطَعَ مِنْ حَدِّ الْمَرَافِقِ عَنِ الْغَسْلِ، وَبَقِيَتِ الْمَرَافِقُ مَغْسُولَةً إِلَى الظُّفْرِ، وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ يَجْرِي عَلَى الْأُصُولِ لُغَةً وَمَعْنًى، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمَا فَهِمَ أَحَدٌ مَقْطَعَ الْمَسْأَلَةِ إِلَّا الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ" إِلَى الْمَرافِقِ" حَدٌّ لِلْمَتْرُوكِ مِنَ اليدين لا للمغسول فيه، ولذلك تدخل المرافق في الغسل. قلت: وما كَانَ الْيَدُ وَالرِّجْلُ تَنْطَلِقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِالْوُضُوءِ إِبْطَهُ وَسَاقَهُ وَيَقُولُ: سَمِعْتُ خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015