تفسير القرطبي (صفحة 2064)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أَيْ مِنْ دُونِ اللَّهِ (إِلَّا إِناثاً)، نَزَلَتْ فِي أهل مكة إذ عبدوا الأصنام. و (إِنْ) نافية بمعنى (ما). و (إِناثاً) أَصْنَامًا، يَعْنِي اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ. وَكَانَ لِكُلِّ حَيٍّ صَنَمٌ يَعْبُدُونَهُ وَيَقُولُونَ: أُنْثَى بَنِي فُلَانٍ، قاله الْحَسَنُ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَتَى مَعَ كُلِّ صَنَمٍ شَيْطَانُهُ يَتَرَاءَى (?) لِلسَّدَنَةِ وَالْكَهَنَةِ وَيُكَلِّمُهُمْ، فَخَرَجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ التَّعَجُّبِ، لِأَنَّ الْأُنْثَى مِنْ كُلِّ جِنْسٍ أَخَسُّهُ، فَهَذَا جَهْلٌ مِمَّنْ يُشْرِكُ بِاللَّهِ جَمَادًا فَيُسَمِّيهِ أُنْثَى، أَوْ يَعْتَقِدُهُ أُنْثَى. وَقِيلَ: (إِلَّا إِناثاً) مَوَاتًا، لِأَنَّ الْمَوَاتَ لَا رُوحَ لَهُ، كَالْخَشَبَةِ وَالْحَجَرِ. وَالْمَوَاتُ يُخْبَرُ عَنْهُ كَمَا يُخْبَرُ عن المؤنث لا تضاع المنزلة، تقول: الأحجار تجبني، كَمَا تَقُولُ: الْمَرْأَةُ تُعْجِبُنِي. وَقِيلَ: (إِلَّا إِناثاً) مَلَائِكَةً، لِقَوْلِهِمُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَهِيَ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، عَنِ الضَّحَّاكِ. وَقِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ (إِلَّا وَثَنًا) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالثَّاءِ عَلَى إِفْرَادِ اسْمِ الْجِنْسِ، وَقَرَأَ أَيْضًا (وُثُنًا) بِضَمِّ الثَّاءِ وَالْوَاوِ، جَمْعُ وَثَنٍ. وَأَوْثَانٌ أَيْضًا جَمْعُ وَثَنٍ مِثْلَ أَسَدٍ وَآسَادٍ. النَّحَّاسُ: وَلَمْ يَقْرَأْ بِهِ فِيمَا عَلِمْتُ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ- حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَقْرَأُ: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَوْثَانًا). وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا (إِلَّا أُثُنًا) كَأَنَّهُ جَمَعَ وَثَنًا عَلَى وِثَانٍ، كَمَا تَقُولُ: جَمَلٌ وَجِمَالٌ، ثُمَّ جَمَعَ أَوْثَانًا عَلَى وُثُنٍ، كَمَا (?) تَقُولُ: مِثَالٌ وَمُثُلٌ، ثُمَّ أَبْدَلَ مِنَ الْوَاوِ هَمْزَةً لَمَّا انْضَمَّتْ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (?)) مِنَ الْوَقْتِ، فَأُثُنٌ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَقَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِلَّا اثْنَا) جَمْعُ أَنِيثٍ، كَغَدِيرِ وَغُدُرٍ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ جَمْعُ إِنَاثٍ كَثِمَارٍ وَثُمُرٍ. حَكَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ، قَالَ: وَقَرَأَ بِهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) يُرِيدُ إِبْلِيسَ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أَطَاعُوهُ فِيمَا سَوَّلَ لَهُمْ فَقَدْ عَبَدُوهُ، وَنَظِيرُهُ فِي الْمَعْنَى: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (?)) أَيْ أَطَاعُوهُمْ فِيمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ، لَا أَنَّهُمْ عَبَدُوهُمْ. وَسَيَأْتِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِقَاقُ لفظ الشيطان (?). والمريد:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015