تفسير القرطبي (صفحة 1959)

وَسَمَّاهُ قَلِيلًا لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لَهُ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ قَالَ قَيْلُولَةً «1» تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا) وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي (الْبَقَرَةِ) مُسْتَوْفًى.

[سورة النساء (4): آية 78]

أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)

فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) شَرْطٌ وَمُجَازَاةٌ، وَ (مَا) زَائِدَةٌ وَهَذَا الْخِطَابُ عَامٌّ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْمُنَافِقِينَ أَوْ ضَعَفَةَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قَالُوا: (لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أَيْ إِلَى أَنْ نموت بآجالنا، وهو أشبه بالمنافقين كَمَا ذَكَرْنَا، لِقَوْلِهِمْ لَمَّا أُصِيبَ أَهْلُ أُحُدٍ، قَالُوا: (لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا «2») فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ. وَوَاحِدُ الْبُرُوجِ بُرْجٌ، وَهُوَ الْبِنَاءُ الْمُرْتَفِعُ وَالْقَصْرُ الْعَظِيمُ. قَالَ طَرَفَةُ يَصِفُ نَاقَةً:

كَأَنَّهَا بُرْجٌ رُومِيٌّ تَكَفَّفَهَا ... بَانٍ بِشَيْدٍ «3» وَآجُرٍّ وَأَحْجَارِ

وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ (يُدْرِكُكُمْ) بِرَفْعِ الْكَافِ عَلَى إِضْمَارِ الْفَاءِ، وَهُوَ قَلِيلٌ لَمْ يَأْتِ إِلَّا فِي الشِّعْرِ نَحْوَ قَوْلِهِ:

مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا

أَرَادَ فَاللَّهُ يَشْكُرُهَا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ وَأَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْبُرُوجِ، فَقَالَ الْأَكْثَرُ وَهُوَ الْأَصَحُّ: إِنَّهُ أَرَادَ الْبُرُوجَ فِي الْحُصُونِ الَّتِي فِي الْأَرْضِ الْمَبْنِيَّةِ، لِأَنَّهَا غَايَةُ البشر في التحصن والمنعة، فمثل الله

طور بواسطة نورين ميديا © 2015