تفسير القرطبي (صفحة 1667)

الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) أَيْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. دَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ إِذْ قَالُوا:" إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ" [الجن: 2 - 1] (?). وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا: مَنْ سَمِعَ الْقُرْآنَ فَكَأَنَّمَا لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا صحيح معنى. ولِلْإِيمانِ (?) مِنْ (أَنْ آمِنُوا) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْخَفْضِ، أَيْ بِأَنْ آمِنُوا. وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ سَمِعْنَا مُنَادِيًا لِلْإِيمَانِ يُنَادِي، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى، أَيْ إِلَى الْإِيمَانِ، كَقَوْلِهِ:" ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ" [المجادلة: 8] (?). وقوله:" بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها" [الزلزلة: 5] (?) وقوله:" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا" [الأعراف: 43] (?) أَيْ إِلَى هَذَا، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَقِيلَ: هِيَ لَامُ أَجْلٍ، أَيْ لِأَجْلِ الْإِيمَانِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) تَأْكِيدٌ وَمُبَالَغَةٌ فِي الدُّعَاءِ. وَمَعْنَى اللَّفْظَيْنِ وَاحِدٌ، فَإِنَّ الْغَفْرَ وَالْكَفْرَ: السَّتْرُ. (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) أَيْ أَبْرَارًا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ، أَيْ في جملتهم. واحدهم وبر وَبَارٌّ وَأَصْلُهُ مِنَ الِاتِّسَاعِ، فَكَأَنَّ الْبَرَّ مُتَّسِعٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمُتَّسِعَةٌ لَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ. الثالثة عشرة- قوله تعالى: (رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) أَيْ على ألسنة رسلك، مثل" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" (?). وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالزُّهْرِيُّ" رُسْلِكَ" بِالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ مِنَ اسْتِغْفَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَلَائِكَةُ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ دُعَاءِ نُوحٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَدُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَاسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ. (وَلا تُخْزِنا) أَيْ لَا تُعَذِّبْنَا وَلَا تُهْلِكْنَا وَلَا تَفْضَحْنَا، وَلَا تُهِنَّا وَلَا تُبْعِدْنَا وَلَا تَمْقُتْنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ (إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ). إِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ قَوْلِهِمْ" رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ" [آل عمران: 194] وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ- أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَعَدَ مَنْ آمَنَ بِالْجَنَّةِ، فَسَأَلُوا أَنْ يَكُونُوا ممن وعد بذلك دون الخزي: والعقاب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015