تفسير القرطبي (صفحة 1665)

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ يَفْهَمُ وَيُرْجَى نَفْعُهُ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا". قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ أَيُّ الْعَمَلَيْنِ أَفْضَلُ: التَّفَكُّرُ أَمِ الصَّلَاةُ، فَذَهَبَ الصُّوفِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّفَكُّرَ أَفْضَلُ، فَإِنَّهُ يُثْمِرُ الْمَعْرِفَةَ وَهُوَ أَفْضَلُ، الْمَقَامَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ، لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْحَثِّ عَلَيْهَا وَالدُّعَاءِ إِلَيْهَا وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ، وَفِيهِ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَرَأَ الْآيَاتِ العشر الحواتم مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَقَامَ إِلَى شَنٍّ (?) مُعَلَّقٍ فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا ثُمَّ صَلَّى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، الْحَدِيثَ. فَانْظُرُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِلَى جَمْعِهِ بَيْنَ التَّفَكُّرِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ ثُمَّ إِقْبَالِهِ عَلَى صَلَاتِهِ بَعْدَهُ، وَهَذِهِ السُّنَّةُ هِيَ الَّتِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا. فَأَمَّا طَرِيقَةُ الصُّوفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ مِنْهُمْ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَشَهْرًا مُفَكِّرًا لَا يَفْتُرُ، فَطَرِيقَةٌ بَعِيدَةٌ عَنِ الصَّوَابِ غَيْرُ لَائِقَةٍ بِالْبَشَرِ، وَلَا مُسْتَمِرَّةٌ عَلَى السُّنَنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْمَشْرِقِ قَالَ: كُنْتُ بَائِتًا فِي مَسْجِدِ الْأَقْدَامِ (?) بِمِصْرَ فَصَلَّيْتُ الْعَتَمَةَ فَرَأَيْتُ رَجُلًا قَدِ اضْطَجَعَ فِي كِسَاءٍ لَهُ مُسَجًّى بِكِسَائِهِ حَتَّى أَصْبَحَ، وَصَلَّيْنَا نَحْنُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمَّا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ قَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَصَلَّى مَعَ النَّاسِ، فَاسْتَعْظَمْتُ جَرَاءَتَهُ فِي الصَّلَاةِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَلَمَّا فَرَغَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ فَتَبِعْتُهُ لِأَعِظَهُ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ سَمِعْتُهُ يُنْشِدُ شِعْرًا:

مُسَجَّى الْجِسْمِ غَائِبٌ حَاضِرْ ... مُنْتَبِهُ الْقَلْبِ صَامِتٌ ذَاكِرْ

مُنْقَبِضٌ فِي الْغُيُوبِ مُنْبَسِطْ ... كَذَاكَ مَنْ كَانَ عَارِفًا ذَاكِرْ

يَبِيتُ فِي لَيْلِهِ أَخَا فِكَرْ ... فَهْوَ مدى الليل نائم ماهر

قَالَ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ مِمَّنْ يَعْبُدُ بِالْفِكْرَةِ، فَانْصَرَفْتُ عَنْهُ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا) أَيْ يَقُولُونَ: مَا خَلَقْتَهُ عَبَثًا وَهَزْلًا، بَلْ خَلَقْتَهُ دَلِيلًا عَلَى قُدْرَتِكَ وَحِكْمَتِكَ. وَالْبَاطِلُ: الزَّائِلُ الذَّاهِبُ. وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:

أَلَا كل شي ما خلا الله باطل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015