تفسير القرطبي (صفحة 1603)

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ بِالْقُعُودِ، وَكَذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَشَارَ بِذَلِكَ وَقَالَ: أَقِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا تَخْرُجْ إِلَيْهِمْ بِالنَّاسِ، فَإِنْ هُمْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرِّ مَجْلِسٍ، وَإِنْ جَاءُونَا إِلَى الْمَدِينَةِ قَاتَلْنَاهُمْ فِي الْأَفْنِيَةِ وَأَفْوَاهِ السِّكَكِ، وَرَمَاهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ مِنَ الآطام «1»، فو الله مَا حَارَبَنَا قَطُّ عَدُوٌّ فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ إِلَّا غَلَبْنَاهُ، وَلَا خَرَجْنَا مِنْهَا إِلَى عَدُوٍّ إِلَّا غَلَبَنَا. وَأَبَى هَذَا الرَّأْيَ مَنْ ذَكَرْنَا، وَشَجَّعُوا النَّاسَ وَدَعَوْا إِلَى الْحَرْبِ. فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمْعَةَ، وَدَخَلَ إِثْرَ صَلَاتِهِ بَيْتَهُ وَلَبِسَ سِلَاحَهُ، فَنَدِمَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ وَقَالُوا: أَكْرَهْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي سِلَاحِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِمْ إِنْ شِئْتَ فَإِنَّا لَا نُرِيدُ أَنْ نُكْرِهَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ سِلَاحَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ). الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) التَّوَكُّلُ: الِاعْتِمَادُ عَلَى اللَّهِ مَعَ إِظْهَارِ الْعَجْزِ، وَالِاسْمُ التُّكْلَانُ. يُقَالُ مِنْهُ: اتَّكَلْتُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِي، وَأَصْلُهُ:" اوْتَكَلْتُ" قُلِبَتِ الواو ياء لانكسار ما قبلها، ثم أبد لت مِنْهَا التَّاءُ وَأُدْغِمَتْ فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ. وَيُقَالُ: وَكَّلْتُهُ بِأَمْرِي تَوْكِيلًا، وَالِاسْمُ الْوِكَالَةُ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّوَكُّلِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ: لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا مَنْ لَمْ يُخَالِطْ قَلْبَهُ خَوْفُ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ سَبْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَحَتَّى يَتْرُكَ السَّعْيَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ لِضَمَانِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ: مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 160] «2». وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا بَيَّنَّاهُ. وَقَدْ خَافَ مُوسَى وَهَارُونُ بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ" لَا تَخافا" «3». وَقَالَ:" فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لَا تَخَفْ" [طه: 68 - 67] «4». وَأَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بِقَوْلِهِ:" فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ" [هود: 70] «5». فإذا كان الخليل وموسى والكليم قَدْ خَافَا وَحَسْبُكَ بِهِمَا- فَغَيْرُهُمَا أَوْلَى. وَسَيَأْتِي بيان هذا المعنى.

[سورة آل عمران (?): آية 160]

إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015