تفسير القرطبي (صفحة 1313)

بُعْدٌ، إِذْ لَا يَحْصُلُ فِي مُقَابَلَةِ الضَّلَالِ الَّذِي مَعْنَاهُ النِّسْيَانُ إِلَّا الذِّكْرُ، وَهُوَ مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ" فَتُذَكِّرَ" بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ تُنَبِّهُهَا إِذَا غَفَلَتْ وَنَسِيَتْ. قُلْتُ: وَإِلَيْهَا تَرْجِعُ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو، أَيْ إِنْ تَنْسَ إِحْدَاهُمَا فَتُذْكِرُهَا الْأُخْرَى، يقال: تذكرت الشيء وأذكرته غيرى وَذَكَّرْتُهُ بِمَعْنًى، قَالَهُ فِي الصِّحَاحِ. الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا) قَالَ الْحَسَنُ: جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَمْرَيْنِ، وَهُمَا أَلَّا تَأْبَى إِذَا دُعِيَتْ إِلَى تَحْصِيلِ الشَّهَادَةِ، وَلَا إِذَا دُعِيَتْ إِلَى أَدَائِهَا، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لِتَحَمُّلِهَا وَإِثْبَاتِهَا فِي الْكِتَابِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى الْآيَةِ إِذَا دُعِيَتْ إِلَى أَدَاءِ شَهَادَةٍ وَقَدْ حَصَلَتْ عِنْدَكَ. وَأَسْنَدَ النِّقَاشُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِهَذَا، قَالَ مُجَاهِدٌ: فَأَمَّا إِذَا دُعِيَتْ لِتَشْهَدَ أَوَّلًا فَإِنْ شِئْتَ فَاذْهَبْ وَإِنْ شِئْتَ فَلَا، وقال أَبُو مِجْلَزٍ وَعَطَاءٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ (?). وَعَلَيْهِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الشُّهُودِ الْحُضُورُ عِنْدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَإِنَّمَا عَلَى الْمُتَدَايِنَيْنِ أَنْ يَحْضُرَا عِنْدَ الشُّهُودِ، فَإِذَا حَضَرَاهُمْ وَسَأَلَاهُمْ إِثْبَاتَ شَهَادَتِهِمْ فِي الْكِتَابِ فَهَذِهِ الْحَالَةُ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ تُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا" لِإِثْبَاتِ الشَّهَادَةِ فَإِذَا ثَبَتَتْ شَهَادَتُهُمْ ثُمَّ دُعُوا لِإِقَامَتِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ فَهَذَا الدُّعَاءُ هُوَ بِحُضُورِهِمَا عِنْدَ الْحَاكِمِ (?)، عَلَى مَا يَأْتِي. وَقَالَ (?) ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْآيَةُ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ جَمَعَتْ أَمْرَيْنِ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، فَالْمُسْلِمُونَ مَنْدُوبُونَ إِلَى مَعُونَةِ إِخْوَانِهِمْ، فَإِذَا كَانَتِ الْفُسْحَةُ لِكَثْرَةِ الشُّهُودِ وَالْأَمْنِ مِنْ تَعْطِيلِ الْحَقِّ (?) فَالْمَدْعُوُّ مَنْدُوبٌ، وَلَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ لِأَدْنَى عُذْرٍ، وَإِنْ تَخَلَّفَ لِغَيْرِ (?) عُذْرٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَلَا ثَوَابَ لَهُ. وَإِذَا كَانَتِ الضَّرُورَةُ وَخِيفُ تَعَطُّلُ الْحَقِّ أَدْنَى خَوْفٍ قَوِيَ النَّدْبُ وَقَرُبَ مِنَ الْوُجُوبِ، وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الْحَقَّ يَذْهَبُ وَيَتْلَفُ بِتَأَخُّرِ الشَّاهِدِ عَنِ الشَّهَادَةِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهَا، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ مُحَصَّلَةً وَكَانَ الدُّعَاءُ إِلَى أَدَائِهَا، فَإِنَّ هَذَا الظَّرْفَ آكَدُ، لِأَنَّهَا قِلَادَةٌ فِي الْعُنُقِ وَأَمَانَةٌ تَقْتَضِي الأداء. قلت: وقد يستلوح مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَائِزًا لِلْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ لِلنَّاسِ شُهُودًا وَيَجْعَلَ لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كِفَايَتَهُمْ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ شُغْلٌ إِلَّا تَحَمُّلَ حُقُوقِ النَّاسِ حِفْظًا لَهَا، وإن لم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015