تفسير القرطبي (صفحة 1305)

وَأَبُو ثَوْرٍ: شَهَادَةُ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ إِذَا كَانَ عَدْلًا، وَغَلَّبُوا لَفْظَ الْآيَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ، وَغَلَّبُوا نَقْصَ الرِّقِّ، وَأَجَازَهَا الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ" وَسَاقَ الْخِطَابَ إِلَى قَوْلِهِ" مِنْ رِجالِكُمْ" فَظَاهِرُ الْخِطَابِ يَتَنَاوَلُ الَّذِينَ يَتَدَايَنُونَ، وَالْعَبِيدُ لَا يَمْلِكُونَ ذَلِكَ دُونَ إِذْنِ السَّادَةِ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ خُصُوصَ أَوَّلِ الْآيَةِ لَا يَمْنَعُ التَّعَلُّقَ بِعُمُومِ آخِرِهَا. قِيلَ لَهُمْ: هَذَا يَخُصُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا" عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَقَوْلُهُ" مِنْ رِجالِكُمْ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَى مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، لَكِنْ إِذَا عَلِمَ يَقِينًا، مِثْلَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الشَّهَادَةِ فَقَالَ:" تَرَى هَذِهِ الشَّمْسَ فَاشْهَدْ عَلَى مِثْلِهَا أَوْ دَعْ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ مُعَايَنَةِ الشَّاهِدِ لِمَا يَشْهَدُ بِهِ، لَا مَنْ يَشْهَدُ بِالِاسْتِدْلَالِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُخْطِئَ. نَعَمْ يجوز له وطئ امْرَأَتِهِ إِذَا عَرَفَ صَوْتَهَا، لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الوطي جَائِزٌ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، فَلَوْ زُفَّتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ وَقِيلَ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهَا جَازَ لَهُ وَطْؤُهَا، وَيَحِلُّ لَهُ قَبُولُ هَدِيَّةٍ جَاءَتْهُ بِقَوْلِ الرَّسُولِ. وَلَوْ أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ عَنْ زَيْدٍ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ غَصْبٍ لَمَا جَازَ لَهُ إِقَامَةُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ، لِأَنَّ سَبِيلَ الشَّهَادَةِ الْيَقِينُ، وَفِي غَيْرِهَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ غَالِبِ الظَّنِّ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُفَ: إِذَا عَلِمَهُ قَبْلَ الْعَمَى جَازَتِ الشَّهَادَةُ بَعْدَ الْعَمَى، وَيَكُونُ الْعَمَى الْحَائِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ كَالْغَيْبَةِ وَالْمَوْتِ فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. فَهَذَا مَذْهَبُ هَؤُلَاءِ. وَالَّذِي يَمْنَعُ أَدَاءَ الْأَعْمَى فِيمَا تَحَمَّلَ بَصِيرًا لَا وَجْهَ لَهُ، وَتَصِحُّ شَهَادَتُهُ بِالنَّسَبِ الَّذِي يَثْبُتُ بِالْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ، كَمَا يُخْبِرُ عَمَّا تَوَاتَرَ حُكْمُهُ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَبِلَ شَهَادَةَ الْأَعْمَى فِيمَا طَرِيقُهُ الصَّوْتُ، لِأَنَّهُ رَأَى الِاسْتِدْلَالَ بِذَلِكَ يَتَرَقَّى إِلَى حَدِّ الْيَقِينِ، وَرَأَى أَنَّ اشْتِبَاهَ الْأَصْوَاتِ كَاشْتِبَاهِ الصُّوَرِ وَالْأَلْوَانِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ الِاعْتِمَادِ عَلَى الصَّوْتِ لِلْبَصِيرِ. قُلْتُ: مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي شَهَادَةِ الْأَعْمَى عَلَى الصَّوْتِ جَائِزَةٌ فِي الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ إِذَا عَرَفَ الصَّوْتَ. قَالَ ابْنُ قَاسِمٍ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: فَالرَّجُلُ يَسْمَعُ جَارَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحَائِطِ وَلَا يَرَاهُ،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015