ثم يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112]، فهنا تسلية ومواساة للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يلقاه من هؤلاء الكافرين.
قوله: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن) شياطين بدل من (عدواً) منصوب، ويمكن فيه إعراب آخر، وهو: أنه مفعول به أول لـ (جعلنا)، وهنا حصل تقديم وتأخير بالنسبة للمفعول الأول والثاني في قوله: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن) فالمعنى: وكذلك جعلنا لكل نبي شياطين الإنس والجن عدواً، فـ (عدواً) مفعول ثانٍ، و (شياطين) مفعول أول، يعني: جعلنا شياطين الإنس والجن عدواً.
والعدو هنا بمعنى: أعداء، فظاهرها مفرد، لكن معناها أعداء، كما قال الشاعر: إذا أنا لم أنفع صديقي بوده فإن عدوي لم يضرهم بغضي فانظر كيف استعمل كلمة (عدو) في معنى الجمع! والعدو ضد الصديق والحبيب.
وكلمة عدو تطلق على المفرد والمثنى والجمع والذكر والأنثى، كما قال تبارك وتعالى حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] فهو يتكلم هنا عن جمع، ومع ذلك قال: (عدو لي إلا رب العالمين).
وكذلك هنا في نفس هذه الآية (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً) فـ (عدواً) هنا بمعنى الجمع، بدليل أنه أبدل منها (شياطين الإنس والجن) أي: مثل ذلك الجعل الذي جعلناه في حقك قد جعلناه لكل نبي.
يعني: هذه سنة الله سبحانه وتعالى فيمن سبقك من إخوانك من الأنبياء أن الله سبحانه وتعالى يجعل لكل نبي عدواً من هؤلاء الشياطين.
فكلمة (كذلك) إشارة إلى أن مثل ذلك الجعل الذي جعلناه في حقك من وجود هؤلاء الأعداء الذين يكيدونك جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين سبقوك أيضاً عدواً شياطين الإنس والجن، فحيث جعلنا لك عدواً يضادونك ولا يؤمنون قد جعلنا لكل نبي تقدمك عدواً من مردة الإنس والجن فعلوا بهم ما فعل بك أعداؤك، كما قال تبارك وتعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43].
وقال تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31]، فهذه الآية بينت صفة أخرى لهؤلاء الأعداء شياطين الإنس والجن هي أنهم مجرمون.
وقد قال: ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن نزل إليه جبريل ثم جاءت به خديجة إليه: (هذا الناموس الذي نزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك.
قال: أومخرجي هم؟! قال: نعم؛ لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودي، ولئن أدركني يومك لأنصرنك نصراً مؤزراً).
فالشاهد هنا من قول ورقة رحمه الله تعالى (لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي) فمن كان صاحب حق فإنه يعادى، وانظر إلى كلمة (بمثل) الدالة على دعوة التوحيد، فمن كان داعية إلى التوحيد فلابد من أن يعادى.
وقد تزول العداوة إذا حصل تنازل عن الحق، وهذا لا يسلكه صاحب العقيدة الحقة؛ لأنه لا يقبل المساومة أبداً، ولا يحصل منه الالتقاء مع أعداء الدين في منتصف الطريق كما أراد المشركون، فالذين يتنازلون دائماً هم أصحاب الباطل، وهم الذين يتواضع بعضهم لبعض ويتنازل بعضهم لبعض ويتعايشون في سلام.
أما صاحب الحق فلأنه لا يملك أن يحور هذا الحق أو يغيره فلا يملك أن يتنازل عنه، أو أن يلتقي مع أعداء هذا الحق في منتصف الطريق، وحينما ساوم الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يعبدوا إلهه شهراً ويعبد إلههم شهراً فإن كان الحق أحدهما اتبعوه نزل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون:1 - 6] يعني الباطل {وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] يعني الحق.
فلذلك لا يحصل مثل هذا الالتقاء أبداً، فالذي يعرض دائماً التنازل هم أصحاب الباطل، ولذلك نجد أهل المذاهب الباطلة كالمذاهب الديمقراطية ونحوها يقبلون التعايش فيما بينهم؛ لأن كل واحد يمكن أن يلتقي مع الآخر على أساس أن الكل يكون له فرصة متساوية وكذا وكذا من الكلام المعروف؛ لأنه باطل وصنع بشر، فلذلك يتنازل بعضهم لبعض، ويعطي بعضهم أصحاب المذهب الباطل أو الضال الحق في الحياة والحق في الوجود، وهذا إذا كانت المذاهب كلها متساوية في أنها أديان أرضية.
أما إذا كان دين الإسلام فلا يمكن أبداً أن يُسوى الإسلام بغيره من الأديان أو المذاهب.
وصاحب الحق إذا تنازل عن شيء من الحق فإنه يفقد بذلك عناصر قوته، ويستوي مع أهل الباطل في هذه الحال.
ولذلك انظر إلى قول ورقة بن نوفل: (لم يأت رجل قط بمثل) وما زلنا نتأمل كلمة (بمثل ما جئت به إلا عودي).
وقوله تعالى: (شياطين الإنس والجن) يعني: كما أن هناك شياطين من الجن فكذلك هناك شياطين من الإنس، وكلهم يطلق عليهم لفظ الشياطين، فمن الإنس -أيضاً- شياطين، ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14]، أي: شياطينهم من الإنس.
والعرب تسمي كل متمرد شيطاناً، سواء أكان من الجن أم من الإنس أم من غيرهما، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الكلب الأسود شيطان)، فكل متمرد يسمى شيطاناً، سواء أكان من الجن أم الإنس أم من غيرهما.
وقوله: (يوحي بعضهم إلى بعض) أي: يلقي ويوسوس، وأصل الوحي هو الإشارة السريعة في خفاء، فمعنى (يوحي) يلقي ويوسوس.
وقوله (زخرف القول) القول المزخرف هو المزوق من الكلام الباطل.
فقوله: (زخرف القول) يعني: المزوق من الكلام الباطل من القول، وأصل الزخرفة الزينة المزوقة، ولذلك قيل للذهب: زخرف.
كما في قوله تعالى: {وَزُخْرُفًا} [الزخرف:35].
وبعض علماء اللغة يرون أن أصل الزخرفة هو الزينة، ولأجل ذلك فرع عليه تسمية الذهب زخرفاً.
والبعض يقول: بل المعنى الأصلي هو أن الزخرف يعني الذهب، ولما كان الذهب حسناً في الأعين قيل لكل زينة: مزخرفة.
وقد يخص بالباطل، كما في هذه الآية (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً) فزخرف القول هو القول المموه المزيف الباطل.
وقوله: (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً) يعني: ليغروهم بهذا الوحي، أو غارين إياهم بهذا الوحي.
ويكون هذا الغرور للضعفاء؛ لأن الله تعالى جعلهم أهل الحجاب، وكذلك الغارين ليقهرهم بمقتضى استعدادهم، وفي الآية دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بفعل الله سبحانه وتعالى وخلقه؛ لأن هذا الجعل من الله، والجعل نوعان: جعل شرعي، وجعل كوني قدري.
وهنا الجعل كوني قدري، وقد جاء في القرآن الكريم استعمال كلمة جعل بمعنى (شرع)، كما في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] يعني: ما شرع لكم في الدين من حرج: وقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} [المائدة:103] يعني: ما شرع.
فهنا الجعل كوني قدري، أي أنه من قدر الله سبحانه وتعالى وكلماته الكونية.
قال المهايمي: حكمة أن جعل الله سبحانه وتعالى لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن كي تظهر الحجج لمجادلتهم وترتفع شبهاتهم، ولئلا يقال: إنه شخص ساعده الكل ليأكلوا أموال الناس، أو يتواصوا عليهم، لكن انقسم الناس عليه كما بين تبارك وتعالى.
وقوله: (ولو شاء ربك ما فعلوه) يعني: ما فعلوا ذلك، والإشارة إلى معاداة الأنبياء وإيحاء الزخارف، وهذا -أيضاً- دليل على المعتزلة، فالله تعالى خالق الشر كما أنه خالق الخير؛ لقوله: (ولو شاء ربك ما فعلوه) فهذا المحكي في الآية شر، والذي شاء أن يقع هذا الشر هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يكون في ملكه إلا ما يريد سبحانه وتعالى.
وقوله تبارك وتعالى: (ولو شاء ربك ما فعلوه) تعرض هنا لوصف الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام، فقوله: (ولو شاء ربك) يعني: يا محمد.
عليه الصلاة والسلام، فهذا يعرب عن كمال اللطف في التسلية.
وقوله: (فذرهم وما يفترون) يعني: وما يفترون من الكفر.
وقوله: (فسوف يعلمون) أي: عاقبة هذا الافتراء.
ولاشك في أن قوله تعالى: (ولو شاء ربك) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (ما فعلوه) صريح في أن المراد بالكثرة هنا المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: أن الخطاب هنا للرسول نفسه عليه الصلاة والسلام، والسياق نفسه يتحدث عن سنة الله في الأنبياء.
فقوله تعالى: (ولو شاء ربك ما فعلوه) هو كالصريح في أن المراد الكفرة المعاصرون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.