تفسير قوله تعالى: (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون)

قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام:105].

قوله: (وكذلك نصرف الآيات) يعني: نوردها على وجوه كثيرة في سائر المواضع، أي: ننوع الآيات ونوردها بصورة وبأخرى حتى نقيم الحجج والدلائل، وكذلك نصرف الآيات ونوردها على وجوه كثيرة في سائر المواضع لتكمل الحجة على المخالفين.

وقوله: (وليقولوا درست) أي: وليقولوا في ردها: درست.

وليقولوا في محاولة إبطالهم هذه الآيات التي نصرفها: درست أي: ليس هذا وحياً أوحاه الله إليك، وإنما أنت حصلت على هذه العلم عن طريق المدارسة، وتعلمته من غيرك، وقرأته على غيرك وحفظت منه أخبار من مضى.

فكأن العلم الذي يحدث به النبي صلى الله عليه وسلم يلزم أن يعزوه إلى العلم الكسبي، وحقيقة الأمر أن العلم الذي أوتيه الرسول هو علم وهبي وهبه الله سبحانه وتعالى له بالوحي، وعلمه الله إياه بالوحي، كما قال تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52].

وهذه الآية هي كقوله تبارك وتعالى حاكياً عن هؤلاء الكافرين: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5]، يقال: درس الكتاب يدرسه دراسة: إذا أكثر قراءته وذل له حفظه.

قال ابن عباس: (وليقولوا درست) يعني: أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن يقولون: درست.

يعني: تعلمت من يسار وخير -وكانا عبدين من سبي الروم- ثم قرأت علينا تزعم أنه من عند الله.

وقال الفراء: معنى (درست): تعلمت هذا العلم من اليهود.

وما زال الكفار إلى الآن -وكأنهم قد تواصوا بهذه الفرية- يقولون: إن القرآن عبارة عن صدى للتوراة والإنجيل.

وهذا من جهلهم وكذبهم على الله سبحانه وتعالى وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يصوغ لهم الشيطان ما هم عليه من الكفر بالقرآن الكريم، فيتواصون بهذه العبارة، وينصح بعضهم بعضاً بها، ويرددونها كالببغاوات، لكن عند التمحيص بأدنى قدر من العقل والبصيرة يثبت أن هذا كذب وافتراء، والأمر بالعكس، فالقرآن مهيمن على ما في هذه الكتب وحاكم عليه، وشتان ما بين القرآن وبين هذين الكتابين المحرفين.

وقُرئ: (وليقولوا دارستَ) بالألف وفتح التاء، يعني: دارست غيرك ممن يعلم أخبار الأمم الماضية.

وهذا كقولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103]، أي أنهم كانوا يزعمون أن الذي علم الرسول عليه الصلاة والسلام القرآن هو بشر أعجمي من الروم، فالله سبحانه أبطل قولهم بقوله: (لسان الذي يلحدون إليه) أي: هذا الشخص الذي يشيرون إليه ويميلون إلى أنه هو الذي علم الرسول عليه الصلاة والسلام هو رجل أعجمي عيي لا يعرف العربية الفصحى (وهذا لسان عربي مبين) فالقرآن في أعلى قمة الفصاحة والبلاغة، وفاقد الشيء لا يعطيه، فإذا كان هذا أعجمياً عيياً لا يعرف العربية الفصحى فكيف يتسنى له أن يأتي بمثل هذا القرآن العربي المبين؟! وقُرئ أيضاً: (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا دَرَسَت) يعني: مضت وتقدمت وتكررت على الأسماع.

كما قالوا: (أساطير الأولين).

وهذه القراءات الثلاث متواترة، وهي (وليقولوا دَرَسْتَ) (وليقولوا دَارَسْتَ) (وليقولوا دَرَسَتَ) يعني: مضت وتقدمت وتكررت على الأسماع.

وقُرئ في قراءة شاذة: (وليقولوا دُرست) على البناء للمجهول.

أي: تليت وعفيت تلك الآيات.

وقرئ أيضاً: (درَّست) مشدداً معلوماً، وتشديده للتكثير أو للتعبية، يعني: درست غيرك الكتب.

وقُرئ مشدداً مجهولاً: (وليقولوا دُرِّسَت).

وقُرئ: (دورست) مجهول دارس، ودارست.

وقُرئ: (درُسَت) وكل هذه قراءات شاذة، أما القراءات المتواترة فهي الثلاث الأول.

وقوله: (ولنبينه لقوم يعلمون) يعني: نبين القرآن الكريم.

وإن لم يجر له ذكر؛ لكونه معلوماً صريح السياق، فلم يرد فيه ذكر القرآن الكريم، لكن جاز التعبير عنه بالضمير (ولنبينه) لأنه يفهم من السياق أن الكلام إنما هو عن القرآن الكريم.

(لقوم يعلمون) أي: يعلمون الحق فيتبعونه والباطل فيجتنبونه.

وقيل: إن اللام الأولى في قوله: (وليقولوا درست) لام العاقبة، واللام الثانية في قوله: (ولنبينه لقوم يعلمون) بمعنى (كي) أي: وكي نبينه لقوم يعلمون.

أي أنها لام تعليل.

أما اللام الأولى في قوله: (وليقولوا درست) فهي لام العاقبة، أو لام الصيرورة، أي: لتصير عاقبة أمرهم إلى أن يقولوا: (درست).

فيقول تعالى: (وكذلك نصرف الآيات) يعني: لتكون الحجة على المخالفين، (وليقولوا) في ردها: (درست).

فهل الله سبحانه وتعالى يصرف الآيات لسبب أن يقولوا: (درست)؟

صلى الله عليه وسلم كلا، بل هو يصرف الآيات ليبينها لقوم يعلمون، ولكن آل أمرهم إلى أن يقولوا: (درست)، وهذا مثل قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8] فهل آل فرعون حينما التقطوا موسى كانوا يريدون بذلك أن يكون لهم موسى عدواً وحزناً؟

صلى الله عليه وسلم العكس هو الحاصل، فقد قالت زوجة فرعون: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:9] فهم لم يلتقطوه للعداوة، وإنما التقطوه ليصير لهم قرة عين، ولكن صارت عاقبة أمرهم إلى عداوة موسى عليه السلام، فاللام هنا لام العاقبة أو لام الصيرورة، وليست لام التعليل.

فكذلك الآيات صرفت للتبيين، ولم تصرف ليقولوا: (درست) ولكن حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين، فشبه به.

قال الخفاجي: وجوز أن يكون على الحقيقة أبو البقاء وغيره.

أي أن اللام في (وليقولوا درست) هي على الحقيقة وليست لام الصيرورة أو العاقبة، يعني أنها لام تعليل.

قالوا: لأن نزول الآيات هو لإضلال الأشقياء وهداية السعداء، كما قال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة:26].

وقال الرازي: حمل اللام على العاقبة بعيد؛ لأنه مجاز، وحمله على لام الغرض حقيقة، والحقيقة أقوى من المجاز، ولأن المراد منه هو عين المذكور في قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة:26].

قال: ومما يؤكد هذا التأويل قوله: (ولنبينه لقوم يعلمون) يعني: أنه ما بينه إلا لهؤلاء، فأما الذين لا يعلمون فما بينا هذه الآيات لهم، وإذ لم يكن بياناً لهم ثبت جعله ضلالاً لهم، فما لم يكن بياناً فإنه يكون ضلالاً لهم، ويضلون بأن يقولوا: (درست) ويكفروا به.

فقوله: (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون) اللام الثانية معروف أنها لام الحقيقة، أما اللام في: (وليقولوا درست) فمن قائل: إنها لام الصيرورة والعاقبة، ومن قائل: إنها لام الحقيقة كالتي في قوله تعالى: (ولنبينه لقوم يعلمون) فهؤلاء هم الذين يبين لهم الآيات، أما الأولون الذين سيقولون: (درست) فهم يضلون بهذه الآيات، ويزدادون بها كفراً وعناداً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015