نفي وجود التعارض بين نفي الإدراك وإثبات الرؤية

وهذا الكلام الذي مضى في الآية (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) إنما هو بناء على أن نفي الإدراك هنا هو بمعنى الرؤية، فإذا نفينا وقلنا: (لا تدركه الأبصار) بمعنى: لا تراه الأبصار فنحن نقول: الأبصار المعهودة هنا في دار الدنيا.

وهناك قول آخر قاله فريق آخر من العلماء، وهو أنهم قالوا: إنه لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك؛ لأن الإدراك ليس المقصود به مطلق الرؤية.

وقالوا: (لا تدركه الأبصار) الإدراك معناه الإحاطة ومعرفة الكنه، فهذا نفي الحقيقة، وهو ثابت، سواء في الدنيا أو في الآخرة؛ إذ لا يحيط أحد بالله سبحانه وتعالى أبداً، ولذلك قال: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110].

يقول ابن كثير: وقال آخرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك؛ فإن الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم.

ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ما هو، فقيل: الإدراك المنفي هو معرفة الحقيقة، فإن هذا لا يعلمه إلا هو.

أي: حتى لو رأى المؤمنون ربهم فإنهم لا يحيطون بالله علماً، ولا يدركون كنه الله عز وجل؛ فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وهذا مما استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه، والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة، لكن لا يعني ذلك أنهم يحيطون به علماً، أو أنهم يدركونه إدراك إحاطة، أي: لا يعرفون حقيقته وكنهه عز وجل، كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته، فإذا قلت: نحن نرى القمر فهل معنى ذلك أنك تحيط علماً بالقمر؟! والجواب أن هذا لا يعني أنك تعرف تفاصيل القمر، بل العكس، فنحن لا نرى للقمر إلا جهة واحدة فقط، فالله سبحانه وتعالى أعظم من ذلك، وهو أولى بذلك، وله المثل الأعلى، فنحن نرى القمر، لكن لا نحيط به، فمن باب أولى أن المؤمنين حتى لو رأوا الله فليس معناه أنهم يحيطون به، أي: لا يدركون كنه الله عز وجل وحقيقته.

وقال آخرون: الإدراك أخص من الرؤية، فالإدراك بمعنى الإحاطة.

وقالوا: لا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم، فإذا قال الله سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، فهل كوننا لا نحيط بالله علماً أننا لا نعلم شيئاً عن الله؟!

و صلى الله عليه وسلم لا؛ بل نحن نعلم من صفات الله سبحانه وتعالى وأفعاله ما بلغنا عن طريق الوحي، ونحن نعلم هذه الأشياء الخاصة التي جاءتنا عن طريق الوحي، لكن هل معنى ذلك أننا نحيط بالله علماً؟

صلى الله عليه وسلم لا، فلا يتعارض كوننا لا نحيط بالله علماً مع كوننا نعلم بعض صفات الله سبحانه وتعالى، حتى أسماء الله لا نعرفها جميعاً، بل من أسماء الله ما استأثر الله بعلمه.

فكما يثبت لنا العلم بالله مع عدم الإحاطة كذلك يثبت للمؤمنين رؤية الله في الآخرة مع عدم الإدراك، فقوله: (لا تدركه الأبصار) يعني: لا تحيط به الأبصار.

ومثال ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) يعني: لا أستطيع أن أوفيك حقك من الثناء، فهل كونه لا يحيط بالثناء أو لا يستوفي كل ما يستحقه الله سبحانه وتعالى من الثناء هل هذا ينفي أنه أثنى على الله؟! الجواب: بل هو يثني على الله، لكن بدون أن يحيط بما يستحقه الله سبحانه وتعالى من الثناء، ولذلك قال: (لا أحصي ثناءً عليك) فنفى إحصاء الثناء، وهذا لا يتعارض مع ثبوت ثنائه على الله، فكذلك هاهنا.

وقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) أي أنه يرى جميع المرئيات، ويبصر جميع المبصرات، ولا يخفى عليه شيء منها.

وقوله: (وهو اللطيف) أي: الذي يعامل عباده باللطف والرأفة.

وقوله: (الخبير) أي: العليم بدقائق الأمور وجلياتها أو جليلاتها.

ويجوز أن تكون الجملة تعليلاً لما قبلها، كنوع من اللف والنشر، فـ (لا تدركه الأبصار) لأنه اللطيف (وهو يدرك الأبصار) لأنه الخبير.

فجاءت هكذا (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) فاللطيف متعلق بقوله: (لا تدركه الأبصار) والخبير متعلق بقوله: (وهو يدرك الأبصار).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015