تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به)

{وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:99].

ثم بين تبارك وتعالى وتعالى حجةً كبرى على كمال قدرته، ومنةً أخرى من مننه ونعمه، فقال عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيء} [الأنعام:99].

قوله: (وهو الذي أنزل من السماء ماء) أي: من السحاب.

لقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:68 - 69]، و (المزن) السحاب، وسمى السحاب سماءً لأن العرب تسمي كل ما علا سماءً، فسماء الحجرة هو السقف، والدليل قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] وفي هذه الآية إشارة إلى حتمية نصر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومن لا يصدق هذا وكان يظن أن الله لن ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم ويعز دينه فليس له حل إلا أن يموت، وهذا مثل أن تقول لواحد: اذهب ومت، حيث لا توجد فائدة إلا كذلك.

فمن كان يظن أن الله لن ينصر محمداً ويعز دينه صلى الله عليه وسلم فلا يوجد أمامه غير أنه يموت؛ لأن هذا لن يقع.

فقوله: (فليمدد بسب) أي: ليربط حبلاً في السماء، والمراد: يربط الحبل في سقف الحجرة ويثبته حوله عنقه -بنفس نظرية الشنق- ويقف على الكرسي ويحرك الكرسي ثم يتدلى ثم ليقطع صلته بالأرض فيتدلى في الهواء، (فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ) يعني: هو لا يكيد إلا نفسه، ولن يستطيع بهذا الظن أو بهذا الأمل في خذلان الإسلام أن يضر إلا نفسه.

فهذا منتهى كيده أنه يكيد نفسه، لكن لا يستطيع أبداً أن يعطل وعد الله بنصرة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهذا معنى: (فليمدد بسبب إلى السماء).

وكذلك هنا قوله: {(وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الأنعام:99]، ففي لغة العرب كل ما علاك فهو سماء.

فقوله: (وهو الذي أنزل من السماء ماء) أي: من السحاب (فَأَخْرَجْنَا بِهِ) هنا أسلوب بلاغي يسمى أسلوب التفات، وهذا التفات بشأن ما أنزل الماء لأجله، أي: فأخرجنا بعظمتنا ذلك الماء مع وحدته مَاءً نبات كل شيء، إشارة بهذا الالتفات إلى بيان كمال اعتناء الله سبحانه وتعالى بهذا الذي أخرجه من ماء واحد، ومع ذلك أخرج بماء واحد نبات كل شيء، أي: كل صنف من أصناف النبات والثمار المختلفة الطعوم والألوان، كقوله تعالى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} [الرعد:4].

وقوله: (فأخرجنا منه)، الهاء تعود على النبات في قوله: ((وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ)) يعني: من النبات.

والمقصود: من أصول النبات (خضراً) أي: شيئاً غضاً أخضر.

يقال: أخضر وخضر، كأعور وعور، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة.

وقوله: (نخرج منه) صفة لـ (خضراً)، أي: نخرج من هذا الخضر (حباً متراكباً) أي: متراكماً بعضه على بعض، مثل سنابل البر والشعير والأرز.

قال الرازي: ويحصل فوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كأنها الإبر، والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة.

ونحن نلاحظ هذا، فمن نظر إلى السنابل يجد فيها أشياء مثل الإبر حتى لا تأتي الطيور فتلتقط تلك الحبوب من السنبلة.

وهذا -أيضاً- علم عجيب جداً من العلوم، فمن كان يقرأ في هذه الأشياء والوسائل الدفاعية التي يزود الله سبحانه وتعالى بها الكائنات من أجل الحفاظ على بقائها وعلى حياتها؟! ومما سمعته من إخواننا الذين يشتغلون بزراعة التين أنهم يقولون: إن التينة ما لم تصل إلى استوائها ونضجها يوجد في أسفلها مادة لبنية تظهر إذا عصرت أسفلها، وهذه المادة اللبنية هي التي تحدث الشقوق والجروح في الشفتين وفي اللسان، فالذي يأكل تيناً كثيراً يحس أنه يوجد جرح في الشفتين وفي اللسان، فإذا استوت التينة لا توجد فيها هذه المادة، يقولون: كأن هذه عقوبة لمن يقطف الثمرة قبل أوانها.

فعليك أن تعرف ذلك، وأن تتجنب أكل الشيء قبل أن يستوي وينضج، ومن تعجل الثمرة قبل أوانها وقبل نضجها واستوائها فإنه يفيد حلقه ولسانه هذا الإفراز اللبني الموجود في أسفل التينة.

وهذا سمعته من الذين عندهم خبرة في زراعة التين، فهذا من الوسائل الدفاعية، حتى النبات يزوده الله سبحانه وتعالى بما يدفع عنه.

وبعض الحيوانات البحرية يفرز حبراً أسود إذا ما تعرض لخطر وهذه المادة تعكر الرؤية على العدو القادم الذي يريد أن يلتهمه أو يؤذيه، وهكذا العالم كله عجيب جداً، وكل هذا الذي نقوله من آيات الله عز وجل.

فبين تعالى ما يخرج عن النوى من الشجر فقال: ((وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا)) يعني: متراكماً بعضه فوق بعض ثم بين تعالى ما ينشأ عن النوى من الشجر إثر بيان ما ينشأ عن الحب من النبات فقال سبحانه: ((وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ)) أي: الطلع أول ما يبدو من ثمر النخيل، فإن أول ما يظهر من ثمر النخيل هو الطلع، يكون كالكيزان الذي فيه العذق، فإذا شق عنه كيزانه سمي عذقاً، وهو القنو، وهو -أيضاً- العرجون بما فيه الشماريخ، وجمعه قنوان، والجمع والمثنى سواء، فالمثنى قنوان والجمع -أيضاً- قنوان، ولا يفرق بينهما إلا الإعراب.

و (دانية) بمعنى: ملتفة يقرب بعضها من بعض، أو قريبة من المتناول، ولذا اقتصر على ذكرها لدلالتها على مقابلها، أي: البعيدة، كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81] ولزيادة النعمة فيها؛ لأنه قال عز وجل هنا: ((وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ))، (دانية) أي: إما أنها قريبة من بعضها، وإما قريبة لمن يتناولها، ولذا يجدها دانية.

فهي تشمل الدانية والبعيدة، لكن لإظهار كمال النعمة اقتصر على ذكر الدانية، وإن كان السياق من حيث التفسير والمعنى يشمل -أيضاً- نعمة الله فيه البعيدة، لكن اقتصر على إحداهما لدلالة السياق عليه، كما اقتصر في قوله: (سرابيل تقيكم الحر) يعني: والبرد.

قوله: ((وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ)) عطف على: (نبات كل شيء) أي: وأخرجنا به جنات.

أو عطف على (خضراً).

(مشتبهاً وغير متشابه) حال من الزيتون، واكتفى به عن حال ما بعده، أو حال من الرمان لقربه، والمحذوف حال الأول.

قال الزمخشري: اشتبه الشيئان وتشابها، كقولك: استويا وتساويا.

والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً، ولذلك قال هنا: (مشتبهاً) من فعل (اشتبه) (وغير متشابه) من الفعل (تشابه).

وقُرئ: (متشابهاً وغير متشابه)، والمعنى: بعضه متشابهاً وبعضه غير متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم، وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها وحكمة منشئها ومبدعها.

وقوله: (انظروا إلى ثمره إذا أثمر) أي: ثمر كل واحد من ذلك إذا أخرج ثمره، انظروا كيف يكون ضئيلاً ضعيفاً لا يكاد ينتفع به (وينعه) يعني: انظروا إليه في بداية خروج الثمر، وكيف يكون هذا الثمر ضئيلاً وضعيفاً، ثم انظروا إلى (ينعه) أي: إلى حال ينعه ونضجه، وكيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع وملاذ، أي: انظروا إلى ذلك نظر اعتبار واستفسار واستدلال، وليس المقصود أي نظر، ولا مجرد حاسة النظر المادي، وإنما المقصود التدبر والتفكر والاستبصار، ولا شك في أن الإنسان يعتبر بذلك.

ولو سألك أحد عن دليل توحيد الله سبحانه وتعالى وعظم قدرته وعمله عز وجل فافتح له ثمرة الرمان، وقل: هذه دليل الوحدانية وتأمل في العجائب في مثل هذه الثمرة، وهذا مجرد أنموذج، والقرآن يدلنا على ما هو أكثر من ذلك، فتأمل في خلق ثمرة الرمان، وبدائع صنع الله سبحانه وتعالى فيها، سواء في منظرها، أو في مذاقها، أو في طريقة تركيبها، وحاول أن تعمل عقلك: كيف يخرج هذا من بين ماء وطين؟! و {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} [الرعد:4] فانظر إلى هذه الثمار وتفكر فيها، والإنسان يعتقد أن ثمرة الرمان خاصة من أعظم ما يتجلى فيه عجيب صنع الله سبحانه وتعالى، فافتح مرة ثمرة الرمان لا لتأكلها ولكن لتتأمل فيها، ودقق في تراكب حباتها وعظم صنع الله سبحانه وتعالى فيها! يقول عز وجل: (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه) يعني: تأملوا حالة الثمر، سواء في بداية خروج الثمرة، وهي حالة الضعف؛ إذ لا يمكن أن ينتفع بهذه الثمرة، أو إلى حالة ينعها، وهي حالة النضج، وكيف ينتقل إلى هذه المرحلة من النضج والاستواء والانتفاع والملاذ.

والمقصود: انظروا نظر اعتبار واستدلال على توحيد الله وقدرته، وعلى وقع الرحمة والحكمة من حال إلى حال، فإن في ذلك آيات عظيمة دالةٍ على ذلك، كما قال عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، فلا ينظر نظر اعتبار واستدلال على قدرة الله إلا هؤلاء العقلاء الذين يؤمنون، يعني: يصدقون بأن الذي أخرج هذا النبات وهذه الثمار هو المستحق للعبادة دون ما سواه، وأنه هو القادر على أن يحيي الموتى ويبعثهم.

وقوله: (إن في ذلكم لآيات لقومٍ يؤمنون) يعني: يؤمنون بأن بالذي يخرج هذا الثمار هو الله وحده الذي يستحق العبادة، أو (يؤمنون) أي: يستدلون بها على البعث والن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015