قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام:95].
قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى) هذا شروع في ذكر بعض مبدعاته الدالة على كمال قدرته وعلمه وحكمته، وفي هذا تقرير شأن توحيده تبارك وتعالى، وقد بين الله عز وجل وقرر في الآيات السابقة التوحيد، وحاجَّ القرآن الكريم المشركين، ودحضهم، وأبطل شبهاتهم، وشرع الله عز وجل هنا في بيان بعض المبدعات، وما استبعدوه من المخلوقات الدالة على كمال قدرته وعلمه وحكمته، وذلك للتنبيه على أن المقصود الأعظم هو معرفته سبحانه وتعالى بجميع صفاته وأفعاله، وأنه مبدع الأشياء وخالقها، ومن كان كذلك كان هو المستحق للعبادة، لا هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها، وفي هذا التعريف بخطئهم في الإشراك الذي كانوا عليه.
والمعنى أن الذي يستحق العبادة دون غيره هو الذي فعل كذا وكذا وكذا مما سيأتي من الآن فصاعداً، فالذي يستحق العبادة دون غيره هو الذي فلق الحب عن النبات، وخلق من النواة النخلة.
وفي معنى قوله تعالى تبارك وتعالى: (إن الله فالق الحب والنوى) قولان: أحدهما: أن (فالق) بمعنى (خالق) والثاني: أن الفلق هو الشق.
أما القول الأول في (فالق): فهو أنه بمعنى (خالق) أي: إن الله خالق الحب والنوى.
وهذا قول ابن عباس في رواية العوفي عنه، وبه قال الضحاك ومقاتل، قال الواحدي: ذهبوا بـ (فالق) مذهب (ثاقب)، يعني: خالق.
وأنكر الطبري هذا، وقال: لا يعرف في كلام العرب (فلق الله الشيء) بمعنى (خلق)، ونقل الأزهري عن الزجاج جوازه، يعني: جواز أن يعبر عن (خلق) بـ (فلق)، وكذا المجد في القاموس.
قال الرازي: الفطح هو الشق، وكذلك الفلق، فالشيء قبل أن يدخل في الوجود كان معدوماً محضاً ونفياً صرفاً، والعقل يتصور من العدم ظلمةً متصلة لا انفراج فيها ولا انفلاق ولا انشقاق، فإذا أخرجه المبدع الموجد من العدم إلى الوجود، فكأنه بحسب التخيل والتوهم شق ذلك العدم وفلقه -يعني: أوجده- وأخرج ذلك المحدث من ذلك الشق، فبهذا التأويل لا يزعم حمل الفالق على الموجد والمبدع.
فهنا الرازي يذكر وجه التعبير عن (خلق) بـ (فلق)، أو عن (خالق) بـ (فالق): فهذا هو وجه القول الأول، وهو أن (فالق الحب والنوى) بمعنى: خالق الحب والنوى.
أما القول الثاني -وهو قول الأكثرين- فهو أن (فالق) بمعنى الشاق الذي يشق الحب والنوى.
وكون الفلق هو الشق في معناه وجهان: أحدهما مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: فلق الحبة عن السنبلة، والنواة عن النخلة.
وهو قول الحسن والسدي وابن زيد، قال الزجاج: يشق الحبة اليابسة والنواة اليابسة فيخرج منها ورقاً أخضر.
أما الوجه الثاني فهو أن الفلق هنا بمعنى الشق الذي يوجد في الحب والنواة، كحبة الشعير -مثلاً-، حيث يوجد فلق ونوع من الشق في الحبة نفسها، وكذلك النواة كما في نواة التمر، فإنه يوجد فيها شق يقسم الحبة إلى اثنتين.
لكن ضعف هذا الوجه الثاني بأنه لا دلالة فيه على كمال القدرة، أما الحب فهو ما ليس له نواة، كالحنطة والشعير والأرز، وأما النوى فهو جمع نواة، وهو الموجود في داخل الثمرة، مثل نوى التمر والخوخ وغيرهما.
قال الرازي: إذا عرفت ذلك فنقول: إنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة، ثم مر به قدر من المدة أظهر الله تبارك وتعالى في تلك الحبة والنواة من أعلاها شقاً ومن أسفلها شقاً آخر، فالأول يخرج منه الشجر الصاعد إلى الهواء، والثاني يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض المسماة بعروق الشجرة، وهي التي نعبر عنها بالجذور، وتصير تلك الحبة والنواة سبباً لاتصال الشجرة الصاعدة في الهواء بالشجرة الهابطة في الأرض.
وذكر الإمام الرازي -كما نقل القاسمي - كلاماً بديعاً جداً في عجائب صنع الله سبحانه وتعالى في فلق الحب والنوى، والحقيقة أن الكلام في غاية الإبداع، وباختصار فإنه لا شك في أن من يدرس علم النبات فإنه يطلع على أسرار وعجائب عظيمة جداً في خلق الحب والنوى.
ونلاحظ هنا أن الرازي هو كـ ابن القيم وكـ الغزالي وغيرهما من العلماء الذين اجتهدوا في محاولة إعمال العقل البشري في التدبر في آيات الله سبحانه وتعالى الكونية.
وكلهم كانوا يتحدثون على مستوى الثقافة التي كانت في عصرهم، وهذا أقصى ما وصل إلى علم البشر في ذلك الوقت، ولا شك في أنه يوجد اليوم من مظاهر الإبداع وعلامات وآثار التوحيد في خلق الله سبحانه وتعالى في عالم النبات ما يبهر العقول.
والكلام هنا هو عن طبيعة إحدى الشجرتين، فالتوجه إلى أسفل هو المقصود بالجذور، وطبيعة الشق الآخر التوجه إلى أعلى، وهو الذي يخرج منه الشجر، فواحدة منهما تقتضي الهوي إلى عمق الأرض، ومع ذلك تولدت منها الشجرة التي تصعد في الهواء، فالحس والعقل يشهد بكون طبيعة تلك مضادة للطبيعة الأخرى، لكن اجتمعتا، فعلمنا بذلك أنه ليس هذا مقتضى الطبع والخاصية، وإنما هو مقتضى الإيجاد والإبداع والتكوين والاختراع، فلو أنك بذرت بذرة فول أو نحوها فبقدرة الله سبحانه وتعالى تنمو الجذور من جهة معينة، فلو أن الحبة وضعت في الأرض مقلوبة بحيث يكون الجذر إلى أعلى فسنجد الحبة نفسها بقدرة الله عز وجل تعدل وضعها، بحيث يتجه الجذر إلى أسفل، والنبات يتجه إلى أعلى، والعجائب في هذا كثيرة جداً.
ومن هذه العجائب التي أشار إليها أن باطن الأرض جرم كثيف صلب لا تنفذ الأسنة القوية فيه، فلو أنك أتيت بسكين حاد وحاولت أن تغوص به في داخل الأرض فإن لم تكن تربة لينة فستكون هناك مقاومة، وهذه الجذور بعضها في غاية دقتها ولطافتها ولينها، ولو أتيت بهذه الجذور أو الشعيرات الجذرية ودلكتها بيدك فإنها تصير مثل الماء، وتلين في يدك وتتمزق بمجرد ضغط الأصابع عليها، ومع أنها في غاية الدقة وفي غاية اللطافة تقوى بقدرة الله سبحانه وتعالى على النفوذ في الأرض الصلبة، والغوص في بواطن تلك الأجرام الكثيفة، فحصول هذه القوى الشديدة لهذه الأجرام الضعيفة التي هي في غاية اللطافة لابد من أن يكون بتقدير العزيز الحكيم سبحانه وتعالى.
ومن سافر من مصر ماراً في الطريق البري فإنه يرى العجائب في سيناء، ويرى الجبال التي في سيناء وفيها عجائب مذهلة من عجائب قدرة الله سبحانه وتعالى.
وهكذا ترى النخيل صنوان وغير صنوان خارجاً من أعماق صخر عتيد في غاية الصلابة والقوة، وفي تلك الصخور العاتية تجد النخل قد نبت من هذه الصخور، فما يكون ذلك إلا بقدرة الله عز وجل.
ومن هذه العجائب أنه يتولد من تلك النواة شجرة، وهذه الشجرة يحصل فيها طبائع مختلفة، فإن قشر الخشبة له طبيعة خاصة، وفي داخل ذلك القشر الخشبة، وفي وسط تلك الخشبة جسم رخو ضعيف يشبه العهن المنفوش، ثم يتولد من جسم الشجرة أغصانها، ويتولد من الأغصان الأوراق أولاً، ثم الأزهار والأنوار -جمع نَورة، وهي البراعم- ثانياً، ثم الفاكهة ثالثاً، ثم قد يحصل للفاكهة أربعة أنواع من القشر، مثل الجوز، فالجوزة من الخارج يكون فيها قشرة خضراء، لكن هذه لا تراها؛ لأنك تتعامل مع الطبقة التي تليها، والذين يبيعونه يأخذون هذا القشر، فالأول طبقة تتكون من هذه القشرة الخضراء، وبعد ذلك يكون القشر الذي نراه نحن وهو الذي يشبه الخشب، ثم تحت القشرة ذلك الخصل الذي هو كالغشاء الرقيق المحيط باللب، وتحته ذلك اللب، ثم ذلك اللب مشتمل على جرم كثيف، وهو أيضاً كالقشر، وهذا الجرم اللطيف هو الدهن، وهو المقصود الأصلي، فتولد هذه الأجسام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وأشكالها وطعومها يدل على أنها نفسها تتعرض لمؤثرات واحدة في تربة واحدة متجانسة، وتسقى من ماء واحد، والشمس واحدة، وهكذا العوامل التي تؤثر عليها واحدة، ومع ذلك بقدرة الله عز وجل يخرج منها هذه الأنواع التي لا حصر لها من خلق الله سبحانه وتعالى من أنواع الفواكه التي تذهل العقول إذا تدبرت وتفكرت ملياً في عظم قدرة الله سبحانه وتعالى فيها، فهذا التنوع كله من ماء واحد، وتربة واحدة، وعوامل محيطة واحدة، ومع ذلك يخرج هذا حلواً وهذا حامضاً مختلفاً ومتفاوتاً، والنوع الواحد يتفرع إلى أنواع، كالتمر مثلاً، كل ذلك يدل على تدبير الحكيم الرحيم المختار القادر لا تدبير العناصر والطبائع.
وكذلك نجد أحوال الفواكه مختلفة، وبعضها يكون اللب في الداخل والقشر في الخارج كما في الجوز واللوز، وبعضها تكون الفاكهة المطلوبة منه في الخارج وتكون النواة في الداخل كالخوخ والمشمش، وبعضها تكون النواة فيه لها لب، كما في نوى المشمش والخوخ، وبعضها لا لب له، كما في نوى التمر، وبعض الفواكه لا يكون له من الداخل والخارج قشر، بل يكون كله مطلوباً في الداخل والخارج، مثل التين، فهذه أحوال مختلفة في هذه الفواكه.
وأيضاً الحبوب مختلفة في الأشكال والصور، فشكل الحنطة كأنه نصف دائرة، وشكل الشعير كأنه مخروطان اتصلا بقاعدتيهما، وشكل العدس كأنه دائرة، وشكل الحمص على وجه آخر.
فهذه الأشكال المختلفة لابد من أن تكون لأسرار وحكم، وقد علم الخالق أن تركيبها لا يكمل إلا على ذلك الشكل، وبعض الحبوب يكون لها خاصية، والأخرى تكون لها خواص ومنافع أخرى، وقد تكون ثمرة واحدة غذاءً لحيوان وسماً لحيوان آخر، فهذا كله يدل على توحيد الله سبحانه وتعالى وقدرته عز وجل.
وإذا أخذت ورقةً واحدة من ورق الشجر تجد خطاً واحداً مستقيماً في وسطها، ثم ينفصل إلى يمنةً ويسرةً، وإلى شعب أخرى لا تزال تزداد حتى تخرج عن الإدراك بسبب ذلك الصغر، حتى لا تكاد تُرى، والخالق تعالى إنما فعل ذلك لتقوى القوى المركوزة في جرم تلك الورقة على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة، حتى إ