الشفاعة المنفية في قوله تبارك وتعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:48]، هي شفاعة الكفار، وهناك نوعان من الشفاعة المنفية: أولاً: الشفاعة للكفار، ثانياً: الشفاعة لغير الكفار بدون إذن رب السماوات والأرض سبحانه، فدلت الآية على أن هناك شفاعتين منفيتين في الآخرة: شفاعة للكفار، أو الشفاعة لغير الكفار بدون إذن من الله سبحانه وتعالى، أما الدليل على نفي الشفاعة للكفار فقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وقد دلّت الآيات على أن الله لا يرضى لعباده الكفر، فإذاً: الكفار ليسوا من أهل الشفاعة، ولا يشفع لهم؛ وقد حكى الله عنهم في سياق التقرير أنهم يقولون: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء:100] فلا شفاعة للكفار أصلاً.
أما الشفاعة لغيرهم بدون إذن الله فدليل نفيها قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109].
والشفاعة للكفار مستحيلة شرعاً مطلقاً باستثناء شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب، لنقله من محل في النار إلى محل آخر منها، فهذه الصورة من صور تخصيص عموم الكتاب بالسنة.
وقد تمسكت المعتزلة كعادتهم بهذه الآية على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة، واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: ((ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع)) فعلم أنها لا تقبل الشفاعة للعصاة،
و صلى الله عليه وسلم أنها خاصة بالكفار، ويؤيده أن الخطاب للكفار من بني إسرائيل، فمعنى الآية: أنه تعالى لا يقبل ممن كفر به فدية ولا شفاعة، ولا ينقذ أحد من عذابه تعالى منقذ ولا يخلص منه أحد.
الزمخشري في كتابه الكشاف ينصر مذهب المعتزلة، والكشاف مطبوع مع حاشيته لـ ناصر الدين الذي دافع فيها عن أهل السنة، وتتبع الزمخشري بكل ضلالاته وعدوانه على أهل السنة.
ففي هذا الموضع: بدأ الإمام ناصر الدين بالرد على الزمخشري بعبارة -في الحقيقة- مفحمة، قال رحمه الله تعالى رداً على الزمخشري في هذا الاستدلال: من جحد الشفاعة فهو جدير بألا ينالها، وأما من آمن بها وصدقها -وهم أهل السنة والجماعة- فأولئك يرجون رحمة الله.
فهذه سنة الله، أن كل من كذب بشيء يطمع فيه أن يعاقبه الله بأن يحرمه منه، فالذي يكذب برؤية الله في الآخرة لن ينالها، لأنه مكذب بها، كذلك من كذب بالشفاعة فإنه سيحرم منها، والله تعالى أعلم.
وقوله في الحاشية: وأما من آمن بها وصدقها -وهم أهل السنة والجماعة- فأولئك يرجون رحمة الله، هذا من الأدب مع الله، حيث لم يقل: هم ينالون، وإنما قال: أولئك يرجون رحمة الله، يعني يطمعون في رحمة الله.
قال: ومعتقدهم أنها تنال العصاة من المؤمنين، وإنما ادخرت لهم، وليست الآيات دليلاً لمنكريها؛ لأن قوله: (يوماً) في هذه الآية: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة:48] نكرة، لم يقل: اليوم، ولكن قال: يوماً، أي يوم من الأيام، فهذا تنكيل، يقول: ولا شك أن في القيامة مواطن، ويومها معدود بخمسين ألف سنة، فبعض أوقاتها ليس زماناً للشفاعة، وبعضها هو الوقت المعدود للشفاعة، وفيه المقام المحمود لسيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدد أيامها، واختلاف أوقاتها، منها قوله تعالى: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] مع قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27].
ففيها إثبات للتساؤل فيحمل على أنهم في موضع لا يتساءلون وفي موضع آخر يتساءلون، فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين، ووقتين متغيرين، أحدهما محل للتساؤل والآخر ليس محلاً له، وكذلك الشفاعة في وقت من أوقات يوم القيامة لا تجزي نفس عن نفس شيئاً، أي نفس حتى ولو كانت مؤمنة، حتى الأنبياء أنفسهم يقولون: نفسي نفسي! ففي فترة من فترات يوم القيامة لا تجزي نفس حتى المؤمنة عن نفس شيئاً؛ لكن في يوم آخر تجزي نفس مؤمنة عن نفس شيئاً بالشفاعة، وأدلة ثبوت الشفاعة لا تحصى كثرة، رزقنا الله الشفاعة، وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة.
إذاً: قوله تبارك وتعالى: (لا تقبل منها) بالتاء والياء (منها شفاعة) أي: ليس لها شفاعة فتقبل كما قال الله عنهم: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء:100]، (وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) والمقصود به: الفداء، قيل هنا: (عدل) لأنه يساوي المفدي، والعدل هو: مال يبذل بوزن الشخص الذي تفديه؛ لأنه يعدله ويساويه (ولا هم ينصرون) يعني: لا يمنعون من عذاب الله عز وجل.