قال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام:36].
قوله عز وجل: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون) تقرير لما مرَّ من أن على قلوبهم أكنة وأغطية وحجب، وتحقيق لكونهم بذلك من قبيل الموتى لا يتصور منهم الإيمان البتة، ففي هذا بيان للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ترك الطمع والرجاء في إيمانهم، وبيان أن الذين يستجيبون للنبي صلى الله عليه وسلم إنما هم الذين يسمعون، وهؤلاء الموتى لا يسمعون فلن يستجيبوا، فمعنى الاستجابة: قبول دعوتك إلى الإيمان.
وقوله: (يسمعون) يعني: يسمعون سماع قبول وسماع تعقل وتفهم وتدبر، لا مجرد السماع الذي تفصله وتتقنه البهائم والعجماوات؛ لأنك لو وقفت تتلو قصيدة أو كتاباً على أي شيء من العجماوات والبهائم فهي تسمع الصوت، لكن لا تعقل، فهذا هو نفس المقصود بمثل هذه الآيات التي تصفهم بعدم السماع، فهم يسمعون كما تسمع العجماوات التي لا عقل لها، لكن لا يفقهون شيئاً من هذا الكلام، كما قال تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني: مع رسلهم: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171] فهو لا يسمع، لكن يسمع الدعاء والنداء فقط، فكما تنادى البهائم بأصوات مميزة فتسمع دون أن تعقل فكذلك هؤلاء، وهذا يتكرر كثيراً في القرآن الكريم في وصف هؤلاء الكفار، أي: إنما يستجيب لك بقبول دعوتك إلى الإيمان الأحياء الذين يسمعون ما يلقى إليهم سماع تفهم، دون الموتى الذين هؤلاء منهم.
وهذا كقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80]، فليس المراد الموتى حقيقة فحسب، بل الآية تشمل الكفار الذين هم في الظاهر أحياء، لكنهم في الحقيقة موتى القلوب لا يفقهون ولا يعقلون، فالمقصود بالموتى الكفار؛ لأنهم موتى في الحقيقة، ولأن الحياة لا تنفعهم ما داموا غير مؤمنين.
فقوله تعالى: (إنك لا تسمع الموتى) أي: وإن كانوا أحياءً بالحياة الحيوانية فهم أموات بالنسبة إلى الإنسانية، لموت قلوبهم بسموم الاعتقادات الفاسدة والأخلاق الرديئة.
ثم ابتدأ الله تعالى كلاماً آخر فقال: (والموتى يبعثهم الله) يعني أن الكفار الذين لا يسمعون ولا يستجيبون يبعثهم الله عز وجل يوم القيامة.
وقوله: (ثم إليه يرجعون) يعني: سيجزيهم بأعمالهم، فالموتى مجاز عن الكفرة، كما قيل: لا يعجبن الجهول بزته فذاك ميت وثوبه كفن فقوله: (لا يعجبن الجهول بزته) يعني أن الشخص الجاهل يعجب بملابسه ورونقها وزينتها، وقوله: (فذاك ميت وثوبه كفن) يعني أن الإنسان الميت لا يتزين بالكفن، ولا يفخر بالكفن، فكذلك هذا الكافر الذي لا يؤمن بالله، فمهما كان عليه من حسن ثياب فإنما هي كالكفن الذي يكون على الموتى، فكيف يفخر بها؟! قيل: فيه رمز إلى أن هدايتهم كبعث الموتى لا يقدر عليه إلا الله، فهذه الآية رمز ترمز إلى هذه المعنى العظيم، وهو أن هدايتهم لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى وحده، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] لأن الهداية هي كبعث الميت من الموت إلى الحياة، وبعث الميت وإعادته إلى الحياة لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، وكذلك الهداية لا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأنها من خصوصيات الله، فكما أنه يستأثر بالقدرة على إحياء الموتى فكذلك يستأثر بالقدرة على إحياء أموات القلوب بالكفر بأن يحيي قلوبهم بالإيمان وبالهداية.
فقوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله) قيل: إن فيه رمزاً لقدرة الله على هدايتهم، وأن ذلك كالبعث، ففيه إخلاص للرسول صلى الله عليه وسلم عن إيمانهم، يعني: أنت تبلغ، لكن ليس عليك هداية القلوب، إنما عليك هداية البيان والتوضيح والإبلاغ، أما هداية القلب وانقياده فهذا النوع من الهداية لا يملكه أحد إلا الله سبحانه وتعالى، وفي مقارنتهم بالموتى من التهكم بهم والإغراء عليهم ما لا يخفى.