ثم إن الله سبحانه وتعالى لما بين النعم اللازمة في حق المسيح ذاته، وهي جلب المنافع ودفع المضار عنه عليه السلام، أتبع ذلك بالنعم المتعدية، فقال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة:111].
قوله: (وإذ أوحيت إلى الحواريين) إما أن يقال: هذا وحي عن طريق الإلهام والإلقاء في القلب، فهذا مما يطلق عليه وحي، ويكون بالإلهام، مثل قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل:68]، ومثل قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7].
أو يقال: الوحي هنا بمعنى الأمر، فيكون معنى (أوحيت إلى الحواريين) أمرت الحواريين، وسيكون المقصود به: أنه كان وحياً حقيقياً بواسطة عيسى، يعني: أوحى إلى عيسى كي يأمر الحواريين.
قوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) يعني: آمنوا بدعوته (قَالُوا آمَنَّا) وأكدوا إيمانهم بالمسيح عليه السلام بقولهم: (آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ)، وقولهم (واشهد) إما أن يكون الخطاب فيه لله سبحانه وتعالى، والمعنى: واشهد -يا ألله- بأننا مسلمون لك، أو يكون الخطاب لعيسى عليه السلام، أي: فاشهد -يا عيسى- شهادة تؤديها عند ربك بأننا مسلمون، أي: لله، منقادون لكل ما تدعونا إليه.
وكل كلمة تدل على الإسلام فإنه يقترن بها لفظ (لله) أي: مسلمون لله، حتى كلمة الإسلام معناها: الإسلام لله.
وقدم ذكر الإيمان لأنه صفة القلب، حيث قال: (أن آمنوا بي وبرسولي).
والإسلام عبارة عن الانقياد والخضوع في الظاهر، والمعنى: آمنا بقلوبنا، وانقدنا بظواهرنا، فجمعوا بين الإيمان والإسلام، حيث (قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون) آمنا في الباطن وأظهرنا الخضوع لشرعك.
وقد ذكر الله تعالى هذا في معرض تعديد النعم؛ لأن كون الإنسان مقبولاً عند الناس محبوباً في قلوبهم من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان، فلذلك جاء ذكر هذا في سياق ذكر النعم المتعددة على المسيح عليه السلام، بأن حببه إلى الناس وقبلوا قوله وآمنوا به، وهم الحواريون.
وذلك لأنه إذا كان كاملاً في نفسه فإنما يحصل له الكمال الأعظم من ذلك بأن يكون كاملاً ومكملاً لغيره، ومصلحاً لغيره، فينال ثواب إرشادهم وهدايتهم، ولذلك جاء ذكر هذا في سياق الامتنان عليه بالنعم.
يقول الرازي: إن قيل: إنه تعالى قال في أول الآية: (اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك)، ثم إن جميع ما ذكره تعالى من النعم مختص بعيسى عليه السلام، وليس لأمه تعلق بشيء منها! قلنا: كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية فهو حاصل على سبيل التضمن والتبع للأم، ولذلك قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون:50] فجعلهما معاً آية واحدة لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر.
وقال بعضهم: أريد بالذكر في قوله تعالى: (اذْكُرْ نِعْمَتِي)، الشكر، ففي ذلك دلالة على وجوب شكر النعمة، وأن النعمة على الأم نعمة على الولد، والشكر يكون بالقول والفعل والاعتقاد.