ثم يذكر القاسمي رحمه الله تعالى هنا تنبيهات: أولها: ما رواه البخاري في سبب نزولها بالتفسير عن أبي الجويرية عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً)، وهذا لا يمكن أن يصدر إلا من المنافقين، (فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ)) حتى فرغ من الآيات كلها).
وأخرج -أيضاً- البخاري عن موسى بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً.
قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين)، وهو صوت البكاء المكتوم، (فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان، فنزلت هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ))).
فقد كان هذا الرجل يُطعن في نسبه لأبيه، ولما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم مهما سألتموني عن أي شيء أجبتكم سأله هذا الرجل: من أبي؟ فقال: (أبوك فلان)، وقد كان هو أبوه الذي ينسب إليه.
وهذا -بلا شك- من أبلغ الإساءة، ولذلك عاتبته أمه، وقالت: هب أنه ليس أبوك، أتفضحني أمام الناس؟! يقول: وروى البخاري في كتاب الفتن عن قتادة أن أنساً حدثهم قال: (سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة)، وكثرة السؤال والتنطع والتفيهق والتعمق والتحري الزائد في الغالب تكون علامة على ظاهرة مرضية، وتكون أحياناً من أعراض مرض الفراغ، ولذلك روي عن بعض السلف أنه رأى رجلاً يقف له كلما جاء وكلما ذهب، ويسأله أسئلة في قائمة طويلة، فاستكثر منه ذلك، وقال له: أكل ما تسأل عنه تعمل به؟ قال: لا.
قال: فما تصنع بازدياد حجة الله عليك؟ فنحن محتاجون إلى الواقعية في اختيار القضايا التي نسأل فيها، وأن تكون في الأمور التي تهمنا، وأن لا يحصل التدقيق في الأسئلة.
فهذا أحد علماء السلف يقال: كان أحسن الناس خلقاً، فما زالوا به حتى أضجروه، فساء خلقه، وذلك: لأنه مع كثرة الإضجار قد يضطر إلى أن يواجه برد غير حميد، ثم يصير ذلك طبعاً له من كثرة ما يفعل ذلك.
فعلينا أن نتواصى جميعاً بتحري نوع الأسئلة، وتحري القضايا المفيدة دون التعمق والتفيهق في دقائق الأمور.
وهناك نماذج هي أدلة على شيوع هذه الظاهرة، أعني عدم الواقعية في إلقاء الأسئلة، وأذكر من ذلك أنه ذات مرة دق جرس هاتفي كثيراً في الساعة الثانية صباحاً قبل الفجر، فقلت: من المؤكد أن هذا موضوع في غاية الأهمية، للاتصال في مثل هذا الوقت، فرددت على الهاتف فإذا هو أخ يقول لي: أحد أقاربي سألك سؤالاً قبل مدة فكان الجواب مختصراً، ونحن نريد جواباً مفصلاً.
فقلت له: خيراً، فما هو السؤال؟ قال: هاهو موجود وسيذكرك بالسؤال، فسمعته يعطيه السماعة وهو يقول له: اسأله.
فقال: ليس في بالي أي سؤال.
فقال له: اسأله أي سؤال! فهل هذه أخلاق طالب العلم؟! لا بد من أن يكون هناك نوع من الواقعية والجدية، فإذا كان الحال أنه لا يوجد هناك سؤال فلماذا إذاً هذا المسلك؟! فنحن -في الحقيقة- محتاجون إلى مراجعة أنفسنا في باب الآداب الشرعية، ومراعاة هذه الآداب، ومثل هذه القضايا التي ينزل الله فيها الوحي لا شك في أنها من عظائم الأمور التي ينزل الله سبحانه وتعالى فيها هذا التأنيب، فلنقدر هذه المسائل حق قدرها، ومسائل الاستئذان وآداب الاستئذان أمر يطول الحديث فيه في الحقيقة؛ لأنه تحصل فيه تجاوزات شنيعة.
ولقد حكى لي أحد الإخوة أنه ترك ضيفاً في الغرفة، ثم غاب عنه قليلاً، فلما رجع وجده في المطبخ قد فتح الثلاجة يشرب ماء ويأكل شيئاً من الثلاجة، يقول: فتسمرت في مكاني وذهلت! فكيف يحصل هذا؟! فالمضيف متزوج، وهذا يدخل المطبخ! وما وجده في الحجرة، وإنما وجده في المطبخ، وهل رَفْعُ الكلفة يصل إلى هذا الحد من انتهاك حرمات البيوت؟! والنماذج كثيرة، ولكن أقول: لا يمكن أن يكون شيء أنزل الله سبحانه وتعالى فيه وحياً يتلى في المحاريب إلى يوم القيامة ثم يكون قضية من القضايا للتسلية، فكون الله سبحانه وتعالى ينزل لنا هذه الآية عبرة لنا كي نلتزم آداب السؤال، خاصة الواقعية في السؤال.
وأما الحديث الذي ذكرنا طرفاً منه فهو أنه روى البخاري عن قتادة أن أنساً حدثهم قال: (سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على المنبر، فقال: لا تسألوني عن شيء إلا بينت لكم)، فالرسول صلى الله عليه وسلم خرج إليهم غضبان من شدة الإلحاف عليه في المسائل، يقول أنس: (فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فإذا كل رجل رأسه في ثوبه يبكي)، خاف الصحابة من غضب الرسول عليه الصلاة والسلام، فإذا كل رجل رأسه في ثوبه يبكي، يقول: (فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه) يعني: إذا حصلت مجادلة بينه وبين شخص عير بأنه يسب إلى غير أبيه، فقال: (يا نبي الله! من أبي؟ فقال: أبوك حذافة) وقد كان يدعى ابن حذافة، وعمر عندما أحس بخطورة الموقف أراد أن يسترضي الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان غضبان، فقال: (رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، نعوذ بالله من سوء الفتن)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط، إنه عرضت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط)، فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)).
وروى البخاري -أيضاً- في باب ما يكره من كثرة السؤال عن الزهري قال: أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خرج حين زاغت الشمس، فصلى الظهر، فلما سلم قام إلى المنبر فذكر الساعة، وذكر أن بين يديها أموراً عظاماً، ثم قال: من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، فوالله لا تسألون عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا.
قال أنس: فأكثر الأنصار البكاء)، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: سلوني وهو غضبان، فقام إليه رجل -وانظر إلى سوء مخالفة هذا الأدب- فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟! قال: النار) ولا حول ولا قوة إلا بالله! (فقام عبد الله بن حذافة، فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: أبوك حذافة، ثم أكثر صلى الله عليه وسلم أن يقول: سلوني سلوني سلوني.
فبرك عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً.
قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك).
وعند مسلم: قال ابن شهاب: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قالت أم عبد الله بن حذافة لـ عبد الله بن حذافة: (ما سمعت بابن قط أعق منك! أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية فتفضحني على أعين الناس؟! وذلك: لأنه ولد حملت به في الجاهلية، فمعناه: هب أن أمك قارفت شيئاً مما كان شائعاً في الجاهلية، فهل تفضحها على أعين الناس وتسأل الرسول عليه الصلاة والسلام من أبي؟! هب أن أباك غير من تنسب إليه! فهذا من العقوق بلا شك.
وفي هذا -أيضاً- أدب آخر؛ لأننا نلاحظ بعض الناس يسأل فتكون المشكلة متعلقة بأبيه أو بأمه مثلاً، فهو غير محتاج للتصريح، فيمكن أن يقول: ما حكم الشرع في أب يفعل كذا؟ لكن هناك من يأتي أمام الناس ويقول: أبي يفعل كذا وكذا ويهتك ستر أبيه، فهذا ليس من الأدب، وهذا من العقوق، بل قل: ماذا يفعل ابن أبوه فعل كذا؟ وحاول أن تغير صيغة السؤال حتى لا تقع في غيبة أبيك وعقوقه ولو كان فيه هذه الأشياء.
ونلحظ في بعض الأسئلة من يأتي ليسأل سؤالاً، ويكون السؤال خاصاً إلى درجة بعيدة جداً من الأسرار الشخصية مما لا يحب السائل أن يسمعه أحد، وإذا بالواقفين كأن على رءوسهم الطير، وكأنهم مثبتين في الأرض بمسامير من حديد، لا يتحرك أحد، والأصل في المسلم أن يكون مرهف الحس، فإذا لاحظت سؤالاً شخصياً، أو فيه ذكر عورة فابتعد حتى لا تسمعه، أما أن يقف المرء ولا يبالي بشيء على الإطلاق، ويصل الأمر إلى حد الاضطرار إلى أن يقال: على الإخوة أن ينصرفوا؛ لأن الأخ له سؤال شخصي فهذا ما لا يليق، وهذا أدب ينبغي أن نراعيه من أنفسنا، فإذا كان السؤال ليس عاماً فابتعد حتى يكون السر بين السائل ومن يجيبه.
وكذلك السائل إذا كان لديه سؤال فيه هتك ستر أو فيه ذكر نوع من العورات فلا يسأل على الملأ، لكن ينفرد بمن يسأله.
ولما قالت أم عبد الله بن حذافة ذلك الكلام لابنها قال عبد الله راداً على أمه: (والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته).
وروى ابن جرير عن السدي قال: (غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام فقام خطيباً فقال: سلوني) نحو ما تقدم وزاد: (فقام إليه عمر فقبل رجله، وقال: رضينا بالله رباً) إلخ.
وزاد: (وبالقرآن إماماً، فاعف عنا عفا الله عنك.
فلم يزل به عمر حتى رضي صلى الله عليه وآله وسلم).
وأخرج ابن جرير -أيضاً- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمر وجهه حتى ج