يقول تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77].
فالآية تفيد النهي عن الغلو عموماً، والغلو في العقيدة من أخطر الأشياء، والغلو في العبادة كغلو الموسوسين، كالذي يغالي في الطهارة، فبدل أن يتوضأ ثلاثاً يتوضأ خمسين مرة، وقد يخرج وقت الصلاة، فهذا غلو في الدين أيضاً، فأي نوع من الغلو الباطل في الدين فهو منهي عنه بنص هذه الآية.
ومن الغلو -أيضاً- الغلو في تعظيم الصالحين، وتعظيم قبورهم، حتى يصيروا كالأوثان التي كانت تعبد، يقول صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو في الدين؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين)، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)، وهذا متفق عليه.
فقوله: (لا تطروني) إما أنه نهى عن أصل الإطراء الذي هو المديح، فهو يقول: لا تمدحوني؛ فأنا لست بحاجة إلى مدحكم بعد أن مدحني الله سبحانه وتعالى بما لا مزيد عليه حين قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، فإنكم إذا مدحتموني استنزلكم الشيطان إلى الوقوع في الغلو، حتى تقولوا فيّ كما قال النصارى في عيسى عليه السلام.
وإما أن النهي هنا عن المبالغة في المدح لا عن أصل المدح، وإنما عن أصل المبالغة في المدح، فإن المبالغة والغلو في المدح ينتهي إلى الانحراف وإلى فساد العقيدة، في القصيدة المشهورة وأظنها لـ أحمد شوقي حيث يقول يخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام: أبا الزهراء قد جاوزت قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا مدحت المالكين فزدت قدراً وحين مدحتك اجتزت السحابا سألت الله في إدناء ديني فإن تكن الوسيلة لي أجابا وما للمسلمين سواك حفظ إذا ما الضر مسهم ونابا فهل الرسول عليه الصلاة والسلام يقبل أن يمدحه رجل بأن يقول: إن المسلمين إذا جاءتهم كربة أو داهمتهم مصيبة ليس لهم حفظ إلا الرسول عليه الصلاة والسلام؟! فالرسول صلى الله عليه وسلم أتى ليحطم أمثال هذه العقائد، فهذا من الغلو الباطل، وقد ضل أحد المغالين في فهم الحديث (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) فقد فسر الحديث تفسيراً عجيباً، وهو البوصيري، فقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) يعني: لا تمدحوني بالصفة التي غلا فيها النصارى في المسيح، وهي قولهم: إن المسيح ابن الله.
فقال البوصيري في القصيدة المعروفة التي يتعبد الصوفية بتلاوتها وحفظها: دع ما ادعته النصارى في نبيهم وانطق بما شئت مدحاً فيه واحتكم يعني: إذا سلمت من قولك: إن محمداً ابن الله.
أو: إن محمداً ثالث ثلاثة فلا حرج عليك، فامدح بما شئت، وانطق بما شئت مدحاً فيه واحتكم.
فالباب مفتوح، فقل ما شئت عدا أن تقول: إن محمداً ابن الله.
أو: إن محمداً ثالث ثلاثة.
ففتح الباب على مصراعيه في هذا الغلو الفظيع حتى قال في قصيدته -مادحاً الرسول عليه الصلاة والسلام، أيضاً بما يرفضه الرسول عليه الصلاة والسلام-: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فهذا من الغلو في الدين الذي قد نهينا عنه.