أقوال المفسرين في تفسير النشوز والإعراض والصلح بين الزوجين

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا} أي: زوجها.

(نشوزاً) أي: تجافياً عنها وترفعاً عن صحبتها بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها.

(أو إعراضاً) أي: إعراضاً عنها بوجهه، أو أن يقل محادثتها ومجالستها كراهة لها، أو لطموح عينه إلى أجمل منها.

(فلا جناح عليهما) يعني: حينئذ لا حرج عليهما.

(أن يصلحا بينهما صلحاً) يعني: أن يحصل نوع من الصلح بينهما بحط شيء من المهر أو النفقة، فتحط هي عنه إن كان لها مؤخر صداق، وتصالحه على أنها تخفف له أو تسامحه بقدر منه، أو تعفو عنه في قدر من المهر أو النفقة، أو تهبه شيئاً من مالها من أجل الإصلاح، أو تضحي ببعض الوقت المخصص لها طلباً لبقاء الصحبة، لكن بشرط أن يكون ذلك عن رضاً وطواعية منها، وإلا إن لم يكن رضاً فعلى الزوج أن يوفيها حقها إذا استبقاها، أو يفارقها إذا لم تقبل ذلك الصلح.

قال في الإكليل: الآية أصل في هبة الزوجة حقها من القسم وغيره.

استدل به من أجاز لها بيع ذلك.

(والصلح خير) أي: من الفرقة والنشوز والإعراض.

وعامة الناس يستدلون على كراهة الطلاق بالحديث الضعيف المشهور: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)، وهذا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويغني عنه ما في القرآن من مواطن يستنبط منها كراهة الطلاق كهذه الآية: ((فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)) الصلح خير من النشوز وخير من الإعراض وخير من الطلاق وخير من الفرقة، فهذا يفيد ضمناً كراهة الطلاق، كذلك مما يفيد كراهة الطلاق قوله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، هذا حث على إمساكها وعدم طلاقها.

قال ابن كثير: بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)، وسبق أن أشرنا إلى ضعف هذا الحديث.

وفي هذه الآية حث الزوج على الصبر على الزوجة حتى لو كره صحبتها، وأن الأفضل له أن يصبر والصلح خير من الفرقة، وخير من سوء العشرة، وخير من الخصومة، أو خير من الطلاق والفرقة، وقد كان من كرم أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يكرم صواحب خديجة بعد موتها، فانظر إلى حسن العشرة كيف يمتد إلى ما بعد وفات أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وكان عليه الصلاة والسلام يكرم كل من كانت تحب خديجة أو تقربه منها، حتى إن صواحبها من النساء كان عليه الصلاة والسلام يكرمهن بعد موتها رضي الله تعالى عنها.

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وقد هلكت قبل أن يتزوجني لما كنت أسمعه يذكرها).

(هلكت) بمعنى: ماتت.

قال عز وجل: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ} [غافر:34]، أي: حتى إذا مات، وقال تعالى: {امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء:176]، أي: مات.

فـ عائشة رضي الله تعالى عنها لما كانت تسمع النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم يذكر خديجة بعد موتها كانت تغار هذه الغيرة من كثرة ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكرها بالخير ويثني عليها، وأمره الله أن يبشرها ببيت من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في صدائق خديجة وصواحب خديجة رضي الله تعالى عنها من الشاة قدراً يكفيهن وينفعهن.

وعنها أيضاً رضي الله عنها قالت: (ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، قالت: وتزوجني بعدها بثلاث سنين، وأمره ربه عز وجل أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها)، مع أنها لم ترها لكن كانت تغار منها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها ثم يبعثها في صدائق خديجة فربما قلت له في بعض الأحيان: (كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها الولد)، فيذكر مناقبها فيقول: كانت كذا وكانت كذا وكانت كذا، وكان لي منها الولد.

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه)، وهذا فيه لزوم وثبات على الإحسان لمن كان له أدنى صلة ممن يحبه من أب أو زوج أو غير ذلك، وفي هذا ما لا يحصر من المحاسن والفضائل.

والصلح فيه من أنواع الترغيب، ففي الحديث: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً).

واستدل بعموم الآية من أجاز الصلح على الإنكار.

قوله تعالى: (وأحضرت الأنفس الشح) فيه بيان لما جبل عليه الإنسان، أي: جعلت حاضرة له مطبوعة عليه لا تنفك عنه أبداً.

كأن الشح ختم على النفوس.

فلا تكاد المرأة تسمح بالنشوز والإعراض وحقوقها من الرجل، ولا الرجل يسمح أيضاً بإمساكها مع القيام بحقوقها على ما ينبغي إذا كرهها أو أحب غيرها.

وقوله تعالى: (والصلح خير) هذا للترغيب في المصالحة.

وقوله تعالى: (وأحضرت الأنفس الشح) لتمييز العذر في المشاحة والحث على الصلح؛ لأنها تعطي الإنسان عذراً إذا حصل أثناء المفاوضات لهذا الصلح نوع من الخصومة والاختلاف، فإذا تلا قوله تعالى: (والصلح خير) رغب في الصلح، فإذا حصل أثناء الصلح مشاحة واختلاف منهم في الاتفاق، ثم تذكر قوله تعالى: (وأحضرت الأنفس الشح) فيكون فيها نوع من المواساة للطرف الذي يلقى الخصومة من الآخر.

يقول: فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبلية بغير استمالة مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته، وكذا شح نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقتنع من قبلها بشيء يسير، ولا يكلفها بذل الكثير، فيتحقق بذلك الصلح.

قوله تعالى: (وإن تحسنوا) أي: في العشرة.

(وتتقوا) النشوز والإعراض، ونقض الحق.

(فإن الله كان بما تعملون) من تحمل المشاق في ذلك.

(خبيراً) فيجازيكم ويثيبكم.

ويلاحظ هنا أن خطاب الأزواج أتى بطريق الالتفات، يقول عز وجل: ((وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ))، فهذا كلام يقال للغائب، ثم التفت من الغيبة إلى الخطاب فقال: ((وَإِنْ تُحْسِنُوا)) وهذا فيه تنبيه، ففي خطاب الأزواج بطريق الالتفات، وقوله: (وإن تحسنوا) عبر عن رعاية حقوقهن بالإحسان.

(وتتقوا) ولفظ التقوى المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه، وتتقوا النشوز وتتقوا الإعراض عنهن، وترتيب الوعد الكريم عليه في قوله: (فإن الله كان بما تعملون خبيراً) هذا فيه الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة.

وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية قالت: (الرجل تكون عنده المرأة المسنة ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها بعد ما أسنت فتقول: أجعلك من شأني في حل، فنزلت هذه الآية في ذلك).

فتبقى زوجة له ويمسكها على أن تتسامح عن بعض حقوقها أو عن حقوقها حسبما يصطلحان).

وروى ابن أبي حاتم عن خالد بن عرعرة قال: (جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فسأله عن قول الله عز وجل: ((وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ))، قال علي: يكون الرجل عنده المرأة فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو كبرها أو سوء خلقها أو قذذها فتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئاً حل له، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج).

وكذا رواه أبو داود الطيالسي وابن جرير.

وروى ابن جرير أيضا عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن هذه الآية فقال: (هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز).

وروى سعيد بن منصور عن عروة قال: (أنزل في سودة (وإن امرأة) إلى آخر الآية).

وذلك أن سودة كانت امرأة قد أسنت ففرقت -يعني: خافت- أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضنت أن تخسر ارتباطها بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعرفت من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ومنزلتها منه، فوهبت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عائشة، فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وروى الحاكم عن عروة عن عائشة أنها قالت له: (يا بن أختي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم في مكثه عندنا -يعني: كان يعدل بينهن في القسم- وكان قل يوم إلا وهو يطوف على نسائه، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت، وفرقت -أي: خافت- أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! يومي هذا لـ عائشة فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، قالت: فنزل في ذلك قول الله تعال

طور بواسطة نورين ميديا © 2015