قوله: ((وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى))، أي: الذي قرب جواره، أو الذي له مع الجوار قرب واتصال نسب ودين.
إذاً الجيران نوعان: جار ذو قربى، وجار جنب، الجار ذو القربى هو الجار القريب الذي يكون قريباً منك إما بنسب أو رحم، وإما بدين فيكون مسلماً.
((وَالْجَارِ الْجُنُبِ)) أي: الجار الأجنبي.
قال نوف البكالي: (الجار ذي القربى) يعني: الجار المسلم، (والجار الجنب) يعني: اليهودي والنصراني.
ولا شك أن من محاسن الإسلام الاهتمام حتى بالجار الكافر حيث جعل له حقه وحرمته، ونزل في حفظ حقه قرآناً.
وقد وردت الوصية بالجار في أحاديث كثيرة، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، وهذا متفق عليه، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يشفع الرجل دون جاره)، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (ما تقولون في الزنا؟ قالوا: حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال صلى الله عليه وسلم: لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره.
قال: فما تقولون في السرقة؟ قالوا: حرمها الله ورسوله، فهي حرام إلى يوم القيامة، قال: لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره)، وعن ابن مسعود (أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أي الذنب عند الله أكبر؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك) يعني: بزوجة جارك.
وعن أبي العالية عن رجل من الأنصار قال: (خرجت من أهلي أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أنا به قائم ورجل معه مقبلٌ عليه، فظننت أن لهما حاجة، قال: فقال الأنصاري: والله لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا الرجل الذي كان معه مقبلاً عليه، ووقف وطال وقوفه مع هذا الرجل، حتى جعلت أرثي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من طول القيام -يعني: أشفق على الرسول عليه الصلاة والسلام من طول القيام الذي وقفه مع هذا الرجل- فلما انطلق قلت: يا رسول الله! لقد قام بك الرجل فجعلت أرثي لك من طول القيام، قال: ولقد رأيت؟ قال: قلت: نعم، قال: هل تدري من هو؟ قال: لا، قال: ذاك جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه، ثم قال: أما إنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام)، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد.
في هذا الحديث لنا أن نتخيل وقوف الرسول صلى الله عليه وسلم الطويل، وهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان من أقوى الناس بدناً، وكان إذا صارع أبطال العرب في المصارعة كان يصرعهم عليه الصلاة والسلام، ومع هذه القوة أشفق عليه الصحابي من طول القيام، فلك أن تتخيل ما مدة هذا القيام؟! وهذا الوقوف الطويل لم يكن في أمر وحكم عادي بل توقع الرسول صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام سيورث الجار، مع الأب والأم والابن وغير ذلك.
إذاً: المسلم يتعبد الله بحفظ حقوق الجار، حتى وإن قدر على أذيته أو الانتقام منه فإنه لا يفعل ذلك؛ لأنه ينزجر خوفاً من الله سبحانه وتعالى، ورعاية لحق الله، فالدافع إلى الإحسان في الإسلام هو رقابة الله سبحانه وتعالى وليس أن يقابل بالمثل.
إذاً: ما نجده في مجتمعات المسلمين اليوم هو أبعد ما يكون عن آداب الإسلام، حتى إن الجار لا يعرف اسم جاره في البنايات الجديدة، ونادراً ما تجد رغبة في التقارب أو أداء حقوق الجوار، هذا إذا لم يحصل الأذية، بل تجد صوراً كثيرة من الأذى وأحياناً تكون باسم الدين، كهذا الذي يستعمل مكبرات الصوت لسماع القرآن الكريم، هذه الصورة تؤذي الشيخ الكبير والطفل والمرأة والمريض وغيرهم، هل يصح أن يستعمل القرآن بهذه الصورة التي تعرفونها لأذية الناس، فضلاً عن الحفلات والأفراح وما يكون فيها من الأذية، فهذا كله من أذى الجار وهذا من الذنوب.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً).
وروى الإمام مسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر! إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)، أكثر ماءها حتى تستطيع أن توزع منه على جيرانك، وفي رواية: (إذا طبخت مرقاً فأكثر ماءه ثم انظر إلى أهل بيت من جيرانك فأصبهم منه بمعروف).
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن! قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه)، ولـ مسلم: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)، يعني: غوائله وشروره ومؤامرته وأذيته، وقال صلى الله عليه وسلم: (يا نساء المؤمنات! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)، يعني: الظلف الذي يكون محرقاً، والمقصود: حتى لو كان شيئاً حقيراً فأهده لجارتك، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً في الحديث المتفق عليه: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذ جاره).
يقول تعالى: ((وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ)) هذه الآية عامة في الجيران سواء كان الجار يهودياً أو نصرانياً أو مسلماً، والمسلم له حق أعلى بلا شك، باعتبار أنه جار ذو قربى، يعني: إما أن يكون قريب المكان كما قال عليه الصلاة والسلام: (أهدي إلى أقربهما منك باباً)، ومعنى هذا: أن جار القربى مقدم على غيره حتى ولو كان غير مسلم.