قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:152].
(ولقد صدقكم) أي: وعدكم الله تبارك وتعالى بالنصر، وقد صدقكم ولم يتخلف وعده تبارك وتعالى، فوعدكم بالنصر في قوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120].
((إِذْ تَحُسُّونَهُمْ)) أي: تقتلونهم، يقال: حسه إذا قتله، أو (إذ تحسونهم) أي: إذ تقتلونهم قتلاً كثيراً.
(بإذنه) بإرادته، أو بتيسيره وتوفيقه.
((حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ))، أي: جبنتم عن القتال.
((وَتَنَازَعْتُمْ))، أي: اختلفتم.
((فِي الأَمْرِ)) إما الشأن، وإما الأمر الذي هو ضد النهي، أي: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمقام في سفح الجبل للرمي.
يقول القاضي كنعان هنا: إن موقع الرماة لم يكن في سفح جبل أحد كما هو شائع، بل كان على تلة صغيرة مشرفة على أرض المعركة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر خمسين رجلاً من الرماة بقيادة عبد الله بن جبير رضي الله عنه بأن يثبتوا على تلك التلة؛ ليدفعوا خيل المشركين بالنبل؛ لئلا يأتوا من ورائهم.
(حتى إذا فشلتم وتنازعتم) أي: اختلفتم في أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالمقام في سفح الجبل للرمي، فقال بعضكم: نذهب للغنيمة فقد نصر أصحابنا، وقال بعضكم: لا نخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأمر كان واضحاً حتى لو غلب المسلمون فعلى الرماة أن يثبتوا ولا يتحركوا من مواقعهم حتى يأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول.
((وَعَصَيْتُمْ))، أي: عصيتم أمره فتركتم المركز؛ لطلب الغنيمة.
((مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ))، أي: من بعد ما أراكم الله ما تحبون من النصر والغنيمة.
,جواب (إذا) يفهم من سياق الكلام، وتقديره حتى إذا فعلتم ذلك كله منعكم الله نصره.
وقوله: ((وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ))، فيه التنبيه على عظم المعصية.
{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا}، فترك الموقع للغنيمة.
{وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}، فثبت به حتى قتل كـ عبد الله بن جبير رضي الله عنه وأصحابه.
{ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ}، أي: منعكم نصره ثم ردكم للهزيمة عنهم؛ ليظهر المخلص من غيره فهربتم.
{وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، ولقد عفا عنكم ما ارتكبتموه من هذه المعصية.
إذاً: ظاهر الآية أن الله عز وجل عفا عنهم من غير توبة، أي: أن الآية لم تذكر توبتهم، فدل على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر بمشيئته، فهذا دليل على أن أصحاب الكبائر تحت المشيئة، إن شاء عفا عنهم وإن شاء عذبهم وعاقبهم.
قوله: (والله ذو فضل على المؤمنين) فيه دليل أيضاً على أن صاحب الكبيرة مؤمن، فإن الذنب المذكور في الآية لاشك أنه كبيرة، ومع ذلك لم تزل عنهم صفة الإيمان، خلافاً للخوارج الذين يكفرون بالمعصية أو بالكبيرة.