يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد: ومنها: أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة، ويدال عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة، فإنه لو انتصر المسلمون دائماً لدخل معهم المنافقون وغير الصادقين في الإسلام، ولم يميز الصادق من غيره، ولو هزم المسلمون دائماً لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة، فيضيع الدين، فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين، أحياناً ينتصرون وأحياناً تكون الأخرى؛ ليتميز من يتبعهم ويطيعهم على الحق وما جاءوا به، ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة، ممن يعبدون الله على حرف: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:11]، إذا كثرت الأموال وعوفي في صحته ووجد السعة والرخاء والرفاهية يقول: هذا دين طيب رأينا منه الخير، فإذا كانت الأخرى فابتلي بموت أولاده أو بمرض أو بفقر أو غير ذلك، يقول: هذا دين شؤم والعياذ بالله، فمثل هذا نزل فيه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] يريد ديناً لا ابتلاء فيه، فإذا ابتلي: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا} [الحج:11] حرمها وابتلي بفقدانها، والآخرة أيضاً؛ بسبب ارتداده {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
فهذه من حكم الله سبحانه وتعالى في أن تكون الأيام دولاً بين الناس.
((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا))، هذه حكمة أخرى أن يتميز المؤمنون من المنافقين، وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الفتن التي تكون في آخر الزمان تفرز الناس وتقسمهم، حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، وهذا ما نراه.
سبحان الله! في مثل هذه الأيام التي نعيشها كل يوم ينكشف منافقون جدد، فقد كانوا يخبئون هويتهم وعداءهم للدين، فظهروا على حقيقتهم؛ ليميز الخبيث من الطيب، وهذه من حكمة الله سبحانه وتعالى أن ينكشف هؤلاء، وينكشف حقدهم على دينه وعلى عباده الصالحين، فيعلمهم الله تعالى علم رؤية ومشاهدة، بعد أن كانوا معلومين في علم الغيب، الذي هو علمه السابق وهو صفة من صفات الله.
وذكرنا من قبل أيضاً حكمة هذا الابتلاء في قوله تبارك وتعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179]، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:214]، وقوله تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، وقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31].
قوله: ((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ)) هنا حكمة أخرى من حكم الابتلاء بالجهاد، وهي أن يكرم ناساً منكم بالشهادة؛ ليكونوا مثالاً لغيرهم في التضحية بالنفس، وهو تعالى يحب الشهداء من عباده، وقد أعد لهم أعلى المنازل وأفضلها، وقد اتخذهم لنفسه، فلابد أن ينيلهم درجة الشهادة.
والاتخاذ منبئ عن الاصطفاء والتقريب كما قال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125].
((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) فيه تنبيه لطيف الوقع على كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخذلوا عن نبيه يوم أحد، فلم يتخذ منهم شهداء لأنه لم يحبهم، فأركسهم وردهم وخذلهم؛ ليحرمهم فضل الشهادة، فالله لا يحب الظالمين، ولذلك خذلهم وثبطهم حتى تخاذلوا وارتدوا عن الجهاد، وحرموا من أن ينالوا الشهادة في سبيل الله.
فالتعريض بالمنافقين، ويحتمل أن يكون بالكفرة الذين أديل لهم تنبيهاً على أن ذلك ليس بطريق النصرة لهم، بل لما ذكر من الفوائد العائدة على المؤمنين.