اختلف العلماء في المراد بالهمزة اللمزة اختلافاً كبيراً، فهناك قول: بأنهما متفقان، بمعنى أن الهمزة واللمزة فعل شخص واحد، والقول الثاني: بأنهم متغايران، فقيل: إن الهمزة العياب الطعان الذي يكثر منه عيب الناس، والطعن عليهم، واللمزة أيضاً مثله، عن أبي الجوزاء قال: قلت لـ ابن عباس: (من هؤلاء الذين بدأهم الله بالويل؟) يعني: من هؤلاء الذين لما بدأ الله الكلام في حقهم بدأه بتوعدهم بهذا الويل، وفي لفظ: (من هؤلاء الذين ندبهم الله إلى الويل؟ قال: هم المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العيب).
فقوله: (المشاءون بالنميمة) يعني: الذين يمشون بالنميمة، فيكثر منهم ويغلب عليهم؛ لأنها صيغة مبالغة.
وقوله: (الباغون للبرآء العيب) يعني: ينسبون إلى الناس البرآء من الصفات ما هم بريئون منها، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إلي المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الملتمسون للبرآء العنت والعيب)، وهذا الحديث رواه الطبراني في المعجم الصغير، وقال الألباني: ضعيف له شواهد ترقى به إلى مرتبة الحسن.
وقال الزجاج: (الهمزة اللمزة) الذي يغتاب الناس ويردهم، يعني: ينتقص أقدارهم ويحتقرهم، قال الشاعر: إذا لقيتك عن كره تكاشرني وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه وفي لفظ آخر: إذا لقيتك عن شحط مكاشر، فقوله: (عن شحط) أي: عن بعد ومعنى البيت: أنك أول ما تنظر إلي تقطب وجهك، وإن كنت غير موجود في المجلس كنت الهامز اللمزة الذي يغتاب ويطعن ويعيب الناس! إذا لقيتك عن شحط تكاشرني وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه وقال زياد الأعجم: تدلي بودي إذا لاقيتني كذباً وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه والمعنى: إذا قابلتني تظهر لي المودة، وإن أغيب فأنت الهامز اللمزة، يعني: الطعان العياب.
وقال ابن قتيبة: أصل الهمز واللمز الدفع.
ومن ذلك قول بعض الشعراء: ومن همزنا عزه تبركعا على استه زوبعةً أو زوبعا يقال: بركعه فتبركع.
يعني: صرعه فوقع على استه.
فالمقصود أن هذا قول من قولين، وهو أن الهمزة اللمزة هي صفة واحدة هي العيب والطعن في الناس.
وهناك قول آخر: أنهما مختلفان، فالهمزة غير اللمزة، وأصل الهمز: الكسر والعض على الشيء بعنف، ومنه همز الحرف، ويقال: همزت رأسه، وهمزت الجوز بكفي كسرته، يمسكه بيديه بعنف فيكسره.
وقيل لأعرابي: أتهمزون الفارة، أي: أنتم عندكم في البادية كيف تنطقون هذه الكلمة؟ يعني: أتنطقونها الفأرة بالهمزة وليس بالألف؟ فقال: إنما تهمزها الهرة، والذي في الصحاح: قيل لأعرابي: أتهمز الفارة؟ فقال: السنور يهمزها، والسنور اسم القط، فالسنور يهمزها، فالقول الأول قاله الثعلبي، وهو يدل على أن الهة يسمى الهمزة.
إذاً فمن ناحية اللغة ممكن أن نسمي القط الهمزة، وقال العجاج: ومن همزنا رأسه تهشماً، يعني: كسرنا رأسه.
إذاً: هناك أقوال متعددة تصل إلى سبعة أقوال في التفريق بين الهمزة واللمزة؛ فمنهم من قال: إن الهمزة هو المغتاب القتات النمام وفي الحديث: (لا يدخل الجنة قتات) والقتات هو النمام الذي ينقل كلام الناس ليفسد بينهم، والواجب أن كون الإنسان إذا سمع كلاماً قبيحاً عن الناس فإنه لا ينقله؛ لأن هذه نميمة، وماسميت امرأة أبي لهب وبحمالة الحطب؛ إلا لأنها كانت نمامة.
وقال الحسن وعطاء وأبو العالية: الهمزة الذي يغتاب ويهمز الإنسان في وجهه إذا قابله، أما اللمزة فالذي يلمزه ويغتابه إذا غاب عنه أو أدبر عنه، ومنه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58]؛ عندما يغيب عليه الصلاة والسلام يلمزوه في الصدقات.
ومن هذا المعنى أيضاً قول حسان: همزتك فاختضعت بذل نفسٍ بقافية تأجج كالشواظ وقال مجاهد: الهمزة: هو الطعان في الناس، واللمزة: الطعان في أنساب الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت)، والطعن في الأنساب بأن يقول: فلان هذا ليس ولد فلان، أو فلان هذا كذا، هذا طعن في الأنساب وهو من الكفر والعياذ بالله وهو من شأن الجاهلية، فـ مجاهد يقول: إن الهمزة طعان في الناس عموماً بأي طعن، لكن اللمزة الطعان في النسب بالذات.
وقال قتادة: الهمزة الذي يهمز بعينيه ويغمز بعينيه ويغتاب الناس بعينيه، فهذا الذي يستعمل عينيه في الهمز، أما اللمزة فيهمز باللسان.
وقال ابن زيد: الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، أما اللمزة فالذي يلمزهم بلسانه.
وقال سفيان الثوري: الهمزة الذي يهمز بلسانه جهراً، واللمزة الذي يلمز بعينه وبحاجبه سراً.
وقال مقاتل: الهمزة المغتاب، الذي يغتاب الناس في عدم وجودهم، واللمزة الطاعن على إنسان في وجهه، على عكس ما ذكرناه عن الحسن وعطاء وأبي العالية.
وقال الإمام ابن كثير: الهماز بالقول، اللماز بالفعل.
وقال ابن كيسان: الهمزة: الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ، واللمزة: الذي يكسر عينه على جليسه، ويشير بيده وبرأسه وبحاجبه بها في المجلس.
وهذه الأقوال ذات وجوه متقاربة وترجع إلى أصل واحد.
بالنسبة للمغايرة؛ فقد جاء استعمال القرآن للفظتين (الهمزة واللمزة) بمعان استخدمت فيها كل كلمة مفردة عن الأخرى، مما يؤيد أن هناك نوع مغايرة بين الهمزة واللمزة؛ فالهمزة قال الله عز وجل فيه: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:10 - 11]، مما يدل على أن المقصود به هنا: الغيبة والكذب والنميمة، وفي اللمزة قال تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:11]؛ وقال عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58]، وكلها تدل على التنقص والعيب في الحضور لا في الغيب، فتغايرا في المعنى وفي الصفة، والجمع بينهما جمع بين القبيحين، فلهذا كان فاعلهما مستحق لهذا الوعيد الشديد: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1].
وعلى كلٍ فإن الأقوال التي قيلت في الآية متقاربة المعنى، ويمكن أن نرجعها إلى أصل واحد، وهذا الأصل هو: أن الهمز واللمز هو الطعن وإظهار العيب في الآخرين؛ ثم هذا الطعن وإظهار العيب على قسمين: إما أن يكون بالجد، كما يكون عند الحقد والحسد فيهمز ويلمز ويطعن ويظهر عيوب الناس، وإما أن يكون بالهزل، فهو يطعن فيهم بمزح كما يكون عند السخرية وإضحاك الآخرين، ثم كل قسم من هذين: (الجد أو الهزل) إما أن يكون في أمر يتعلق في الدين أو في أمر يتعلق في الدنيا بما يتعلق بجلسته أو شكله أو صورته، وأنواعه كثيرة وغير مضبوطة.
والطعن أيضاً إما يكون لحاضر أو لغائب، وقد يكون باللفظ، وقد يكون بالإشارات، كمن يشير برأسه أو بعينه أو بيده أو بلسانه أو بحاجبه إلى آخره.