قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7] أي: إن الذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم أولئك هم خير البرية.
وقد جاء حديث في هذا المعنى عن أنس رضي الله عنه قال: (قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا خير البرية! فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك إبراهيم)، وجواب العلماء عن هذا ونحوه كحديث: (لا تفضلوني على يونس بن متى) إما أن هذا الخبر كان قبل أن يوحى إليه عليه الصلاة والسلام أنه أفضل الأنبياء والمرسلين، أو أنه قاله على سبيل هضم النفس والتواضع صلى الله عليه وآله وسلم.
وقوله: ((أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)) هنا يعقد العلماء مسألة، وهي: المفاضلة بين صالحي البشر وبين جنس الملائكة.
يقول ابن كثير: اختلف الناس في تفضيل الملائكة على البشر على أقوال، فأكثر ما قيل في هذه المسألة في كتب المتكلمين، والخلاف فيها مع المعتزلة ومن وافقهم.
وأقدم كلام روي في هذه المسألة ما جاء في ترجمة أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص أنه حضر مجلساً لـ عمر بن عبد العزيز وعنده جماعة، فقال عمر: ما أحد أكرم على الله من كريم بني آدم، ومن الصالح من بني آدم، واستدل بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7]، فوافقه على ذلك أمية بن عمرو بن سعيد، فقال أراق بن مالك: ما أحد أكرم على الله من ملائكته، فهم خدم داريه، ورسله إلى أنبيائه، واستدل بقوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20]، فأجاب المخالف فقال: قد كرم الله آدم فخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وجعل من ذريته الأنبياء والرسل، ومن تزوره الملائكة.
وهنا نبيّن باختصار موضع النزاع فنقول: لا خلاف في أن الكفار والمنافقين غير داخلين في هذه المفاضلة على الإطلاق؛ لأنهم كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]، وليس المقصود بهذه المفاضلة المفاضلة بين حقيقة البشر وحقيقة الملائكة من حيث العنصر مثلاً، أو الجنس الذي خلق منه، لا، إنّها المفاضلة في هذه المسألة بين صالحي البشر وبين الملائكة، فهذا هو محل النزاع، وذهب بعضهم إلى أن الملائكة أفضل من سائر المؤمنين، وقالوا: إنّ الخلاف بين الملائكة وبين الأنبياء فقط.
ولن نناقش هنا الأدلة، ولكن نختم الكلام بترجيح ابن تيمية في المسألة وهو: أن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، وذلك حينما يدخلون الجنة، وينالون الزلفى، ويسكنون الدرجات العلى، ويحييهم الرحمن، ويخصهم بمزيد قربه، ويتجلى لهم فيستبشرون بالنظر إلى وجهه الكريم، وتقوم الملائكة في خدمتهم بإذن ربهم.
فصالحو البشر أفضل باعتبار كمال نهايتهم في الجنة، والملائكة أفضل باعتبار البداية، فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى متنزهون عما يلابسه بنو آدم، ومستغرقون في عبادة الرب، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحول البشر، فهذه خلاصة الكلام في هذه القضية.