يقول العلامة الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: ذكر هنا الذين كفروا ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) وجاء بعدها ((أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ)) مما يشعر بأن وصف الكفر يشمل كلاً من أهل الكتاب والمشركين، كما يشعر مرة أخرى أن المشركين ليسوا من أهل الكتاب؛ لوجود العطف، فالعطف يقتضي المغايرة.
إذاً فالمشركون ليسوا من أهل الكتاب، وأهل الكتاب ليسوا من المشركين، وهذا لا يؤخذ من مجرد لفظ الآية، وهذا المبحث معروف عند المتكلمين وعلماء التفسير، واتفقوا على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وأن المشركين هم عبدة الأوثان، وأن الكفر يجمع القسمين، ولكن الخلاف: هل يجمعهما الشرك أيضاً أم لا؟ فهل يوصف أهل الكتاب أيضاً بأنهم مشركون كما يوصفون بأنهم كفار؟ يقول الشيخ: بين الفريقين عموم وخصوص، عموم في الكفر، وخصوص في أهل الكتاب لليهود والنصارى، وخصوص في المشركين لعبدة الأوثان.
إذاً: الوصف العام في الكفر، ثم هناك اختص اليهود والنصارى بأنهم يسمون أهل كتاب، واختص عبدة الأوثان بكونهم هم المشركين، وهذا في حدود فهم هذه الآية فقط.
وقد جاءت آيات أخرى تدل على أن مسمى الشرك يشمل أهل الكتاب أيضاً، كما في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:30 - 31] فالشاهد في آخر هذه الآية وهو قوله تعالى: (عَمَّا يُشْرِكُونَ)، ولا شك أن الإشارة هنا إلى اليهود وإلى النصارى، فوصفهم أيضاً بالإشراك، لأن النصارى قالوا: ثالث ثلاثة، واليهود قالوا: عزير ابن الله، واليهود أيضاً مشبهة كما هو معلوم من كفرهم، فهذا من الشرك.
وجاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه منَع نكاح الكتابية، وقال: وهل هل هناك شرك أكبر من قولها: اتخذ الله ولداً؟ فالشاهد هنا في وصف عبد الله بن عمر الكتابية بالشرك، وإن كان جمهور العلماء يختلفون معه في ما ذهب إليه من منع الزواج من الكتابيات، ومن هنا وقع النزاع في مسمى الشرك: هل الشرك يشمل أهل الكتاب أم لا؟ مع أننا وجدنا فرقاً في الشرع بين معاملة أهل الكتاب ومعاملة المشركين، فأحل الله سبحانه وتعالى ذبائح أهل الكتاب، ولم يحل ذبائح المشركين، وأحل نكاح الكتابيات، ولم يحله من المشركات كما قال تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221]، وقال عز وجل: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، وقال: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10]، ثم بين ما في حق الكتابيات وقال عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة:5] إذاً: فهناك مغايرة في الحكم بين أهل الكتاب وبين المشركين.
وقد فصل العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في كتابه المبارك (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) عند الكلام على الآيات في سورة براءة، وذلك عند قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] إلى قوله: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31].
يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الآية فيها التنصيص الصريح على أن كفار أهل الكتاب مشركون؛ بدليل قوله فيهم سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ بعد أن بين وجوه شركهم بجعلهم الأولاد لله، واتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، أي: أنّ الآيات التي نعت على المشركين شركهم في أي نوع من أنواع الشرك كثيرة، كزعمهم أن الملائكة بنات الله، فهذا شرك، وكذلك الذين قالوا: (عزير ابن الله) فهذا شرك، والذين قالوا: (المسيح ابن الله) فهذا أيضاً شرك.
فيقول الشيخ رحمه الله تعالى: ونظير هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] فأجمع العلماء على أن كفار أهل الكتاب داخلون في هذا الحكم؛ لأن مقتضى قول بعض الضالين المضلين المنافقين الزنادقة الذين يتجرءون ويزعمون أن أهل الكتاب مؤمنون، وأن صالحهم يدخل الجنة، والعياذ بالله، وهذا تكذيب صريح بالقرآن، ومن شك في كفر اليهودي أو النصراني فهو كافر خارج من الملة، ولا يمكن أن يكون له حظ من الإسلام، ومع ذلك تجد بعض هؤلاء الزنادقة والمضلين يتلاعبون بآيات الله، ويريدون أن يمارسوا هواية اليهود القديمة في تحريف كلام الله عز وجل عن مواضعه، فالقرآن الكريم صريح في هذه المسألة بلا خلاف، ومقتضى كلامهم أن الله سبحانه وتعالى لا يغفر لمن يعبدون الأوثان فقط، وأما اليهود والنصارى فهؤلاء داخلون في قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وهذا إلحاد في آيات الله تبارك وتعالى.
يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: وقد جاءت آيات أخر تدل بظاهرها على أن أهل الكتاب ليسوا من المشركين، كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [البينة:6].
وقوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة:105]، والعطف يقتضي المغايرة.
والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه -هو العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى-: أن وجه الجمع: أن الشرك الأكبر المقتضي للخروج من الملة أنواع، وأن أهل الكتاب متصفون ببعضها، وغير متصفين ببعض آخر منها.
فأما البعض الذي هم غير متصفين به فهو ما اتصف به كفار مكة من عبادة الأوثان صريحاً، أي: أن عبادة الأوثان صراحة غير موجودة في أهل الكتاب، نعم أنه يوجد فيهم هذه العبادة، ولكنه ليست بطريقة صريحة، فهم الآن يتوسلون بالأصنام، ويبكون أمامها، ويتبركون ويتمسحون بها، فعبادة الأصنام موجودة، ولكنها ليست بصورة صريحة كما هو الحال في مشركي مكة.
إذاً: فعطفهم عليهم هو لاتصاف كفار مكة بما لم يتصف به أهل الكتاب من عبادة الأوثان، وهذه المغايرة هي التي سوغت العطف.
أي: أن الوثنيين تلبسوا بنوع من الشرك غير النوع الذي تلبس به أهل الكتاب، فهذا هو معنى المغايرة هنا، فكل واحد اختص بنوع من الشرك، فالشرك أنواع، والجنون فنون، فعبادة الأوثان شرك، وعبادة الكواكب شرك، وعبادة الأحجار شرك، وعبادة الأنبياء شرك، وعبادة الملائكة شرك، وعبادة الفئران كما في شرق آسيا شرك، بل وتبني القصور الفخمة من الرخام لعبادتها، وكذلك عبادة الأبقار شرك، فالشاهد أنّ الشرك أنواع، فالمغايرة ناشئة من أن شرك هؤلاء غير شرك هؤلاء، فلا تنافي أن يكون أهل الكتاب مشركين بنوع آخر من أنواع الشرك الأكبر، وهو طاعة الشيطان والأحبار والرهبان، فإن مطيع الشيطان إذا كان يعتقد أن ذلك صواب فهو عابد للشيطان، ومشرك بعبادته للشيطان الشرك الأكبر المخلد في النار، كما بينه قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ} [النساء:117 - 118] أي: وما يعبدون إلا شيطاناً؛ لأن عبادتهم للشيطان هي طاعتهم له فيما حرمه الله عليهم.
وقوله تعالى أيضاً: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60].
وقال تعالى عن خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44].
وقال تعالى: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ:41].
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام:137].
فكل هذا الكفر هو بشرك الطاعة في معصية الله تعالى، ولما أوحى الشيطان إلى كفار مكة أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الشاة تصبح ميتة من قتلها؟ فإنه إذا قال عليه الصلاة والسلام: الله قتلها، أوحى إليهم أن يجادلوا المسلمين ويقولوا: ما قتلتموه بأيدكم حلال وما قتله الله حرام؟! فأنتم إذاًً أحسن من الله! فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] وما أشبه كثير من الناس في طريقة وأسلوب طعنهم في الأحكام الشرعية -بأسلوب الشيطان وطريقته، وذلك حتى يشككوا الناس في دين الله تبارك وتعالى، فالأسلوب نفس الأسلوب، فهؤلاء ليس لهم رد غير التوقف عن جدالهم، وعدم التنزل إلى هذه الدرك المهلك، (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)، فأقسم تعالى في هذه الآية على أن من أطاع الشيطان في معصية الله فإنه مشرك بالله، ولما سأل عدي بن حاتم رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن