قال عز وجل: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى:6 - 7] هذا استثناء مفرغ أي: لا تنسى مما تقرؤه شيئاً من الأشياء، إلا ما شاء الله أن تنساه مما تقتضيه الجبلة البشرية أحياناً.
قال الزجاج: إلا ما شاء الله أن ينسى فإنه ينسى، ثم يتذكر بعد ذلك ولا ينسى نسياناً كلياً دائماً؛ لأن ما في الجبلة لا يتغير، وإلا لكان الإنسان عالماً آخر.
وقد روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله فلاناً! لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطتها) وفي رواية: (كنت أنسيتها)، وهذا النسيان إنما يكون عارضاً طارئاً، كمن ينسى في الصلاة مثلاً آية أو نحو ذلك، فهذا هو المقصود بقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}، وليس هو النسيان الذي يترتب عليه عدم التذكر مطلقاً.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني) رواه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} يعني: على وجه القلة والندرة، كأن تقول مثلاً: قل من يقول كذا، وأنت تريد أنه لا يقول أحد هذا الكلام.
وقال الفراء فيما نقله الرازي: إنه تعالى ما شاء أن ينسي محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً، إلا أن المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصيره ناسياً لقدر عليه، كما قال: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا} [الإسراء:86]، ونحن نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك، هل شاء الله أن يذهب ما أوحى إليه؟ لا، بل هذا لمجرد بيان قدرة الله تعالى على ذلك، كذلك قوله هنا: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6 - 7] للتذكير بأن الله قادر على أن ينسيك إياه، فهذه فائدة الاستثناء هنا.
قوله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} يعني: يعلم ما يجهر به العباد وما يخفونه من الأقوال والأفعال، وهو تعليل لقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى:6 - 7]، مبين لحكمته، وهو سبق علمه تعالى لحاجة البشر إلى إقرائه الوحي، وإخراجهم به من الظلمات إلى النور.
وكيف يكون هذا تعليلاً لقوله: ((سَنُقْرِئُكَ)) لأنه ((يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى))؟
صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى يعلم بعلمه الأزلي أن البشر محتاجون إلى إقرائه الوحي، لأن الصلة بين الله سبحانه وتعالى وبين الرسول عليه الصلاة والسلام ركنها المتين هو الوحي، لأن النبي هو من يوحى إليه، ونبوة الله هي الوحي، فهذا الوحي لو افترض وجود خلل في نفسه خاصة في حق هذا الدين الخاتم أو أصل الرسالة الخاتمة أو الشريعة الخاتمة؛ فتخيل الذي يمكن أن يحصل في البشر وهم بحاجة إلى الوحي أشد من حاجتهم إلى الهواء والطعام والشراب؟! فلذلك يفهم من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى ((يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى))، فمما يعلمه الله سبحانه وتعالى مسيس حاجة البشرية إلى أن يضمن الله لنبيه حفظ هذا القرآن، وذلك بأن يحفِّظه القرآن بحيث لا ينساه أبداً، ويجعله قارئاً بقدرة الله لا بأسبابه الحسية كالتكرار والمذاكرة، وإنما بتوفيق الله سبحانه وتعالى.
فأول تأمين للقرآن أنه عليه الصلاة والسلام حُفظ من نسيان شيء منه {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى}، ((إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى)) هذه تعليل لقوله: (سنقرئك) أي: سنقرئك حتى تحفظ القرآن؛ لأن الله يعلم السر وأخفى، ومما يعلمه شدة حاجة البشر إلى هذا القرآن أن تبلغهم إياه كما أنزله الله إليك، وليخرجوا به من الظلمات إلى النور.