نشرع بإذن الله تعالى في تفسير سورة المطففين، وهي السورة الثالثة والثمانون في ترتيب المصحف الكريم.
قال المهايمي: سميت بالمطففين دلالة على أن من أخل بأدنى حقوق الخلق استحق أعظم ويل من الحق.
حيث قال عز وجل: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:1 - 3].
فإذا كان من أخل بحقوق الخلق عوقب بالويل الذي هو أعظم العذاب من الله سبحانه وتعالى، فكيف بمن أخل بأعظم حقوق الله على العباد من الإيمان به وبآياته ورسله؟! وسورة المطففين هي سورة مكية على الأظهر، فإن سياقها يؤيد أنها نزلت بمكة لا سيما خاتمتها، فإنها في صفات المستهزئين الذين كانوا بمكة، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] إلى آخرها.
وحملها على المنافقين بالمدينة بعيد، إذ لم يبلغ بهم الحال ذلك، فالمنافقون في المدينة ما تجرءوا إلى حد أن يفعلوا ذلك صراحة مع المؤمنين.
وأما ما رواه النسائي وابن ماجة كما في ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] فحسنوا الكيل بعد ذلك) فقد ذكرنا مراراً أن سبب النزول في إطلاق السلف لا يكون مقصوراً على سبب النزول؛ لأنه قد تشمل الآية حكمه، فأهل المدينة تلي عليهم ما سبق إنزاله في مكة، وقيل لهم: أنزل الله ما أنتم عليه من تطفيف فأقلعوا، وهذا ظاهر.
ومنه يعلم أن قول بعضهم: نزلت بمكة إلا قصة التطفيف وشيئاً آخر، وقولهم: إن كل نوع من المكي والمدني منه آيات مستثناة، إنما منشؤه الحيرة في المطابقة بين ظاهر ما يتناقل من المأثور في سبب النزول، وبين ما يدل عليه السياق، وبالوقوف على عرف السلف يزول الإشكال، ويعلم سبب هذه الحيرة.
وكثيراً ما يشير إلى هذا القاسمي رحمه الله تعالى حيث يذكر عدة أسباب للنزول في بعض السور وبعض الآيات، يقول الأول: نزلت في كذا.
ويقول آخر: نزلت في كذا، في أشياء متغايرة؛ فلا يستلزم من ذلك تعدد النزول في كل الأحوال, ولا يستلزم التعارض بين هذه الأسباب؛ لأنها تكون قد نزلت لسبب واحد أو لغير سبب أصلاً, إلا أن حكمها ينطبق على هذه الوقائع، فيقال: نزلت فيمن يفعل كذا وكذا، بمعنى أن الحكم الذي تدل عليه الآية يشمل هذا وهذا.