يقول الله تبارك وتعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19].
((وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ)) أي: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد وصف الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بأشرف الصفات في أشرف المقامات، وهي صفة العبودية لله، فبعض الفئات من الناس تظن أنها لن تعظم النبي صلى الله عليه وسلم حق قدره حتى تبالغ في وصفه بما يكرهه، وبما يقدح في عقيدة التوحيد، فيظنون أن هذا تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم، وهم في هذه الحالة يفعلون فعل النصارى، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله).
إن فخر الرسول عليه الصلاة والسلام هي العبودية لله التي هي غاية الحب وغاية الذل، فمن أراد أن يمدحه فليمدحه بالعبودية والتواضع لله؛ لأن القاعدة أن من تواضع لله رفعه، ولا يمكن أن نبياً يبعث إلى الناس ويدعوهم إلى عبادة الله والكفر بالأنداد ثم هو نفسه يدعوهم إلى عبادة نفسه؛ لأن هذا تعارض، يقول عز وجل: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:79 - 80].
فالغلو في النبي عليه الصلاة والسلام قد يصل إلى الكفر والعياذ بالله، خاصة بعض الصوفية الذين يوجد عندهم انحرافات كثيرة في هذا الباب، فلنحذر الغلو والمبالغة في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما عند بعض الشعراء وأشهرهم هو البوصيري في البردة المشهورة، وفيها كلام بشع يتناقض مع التوحيد تناقضاً جذرياً، مثل قوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها.
يعني: من كرم الرسول عليه الصلاة والسلام أنه خلق الدنيا وضرتها، أي: الآخرة.
ومن علومك علم اللوح والقلم.
وقوله: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم أو قول بعضهم عند التعوذ: أعوذ بمحمد من شر ما خلق الله، هل يعظم بهذا؟! والرسول صلى الله عليه وسلم لما سمع رجلاً يقول: (ما شاء الله وشئت، غضب وقال: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده)، والأدلة في ذلك كثيرة.
قوله: ((يَدْعُوهُ)) يعني: يعبد ربه.
قوله: ((كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)) يعني: أن الجن لما رأوا النبي عليه الصلاة والسلام وهو يعبد الله عز وجل ازدحموا عليه طبقات فوق طبقات وجماعات بعضها فوق بعض؛ تعجباً مما رأوه من عبادته، واقتداء أصحابه به، وإعجاباً بما تلا من القرآن؛ لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره.
والضمير في قوله: ((كَادُوا)) عائد على الجن، أي: كاد الجن يكونون عليه لبداً؛ لأن الحديث في البخاري يدل على أنهم الجن.
وجوز رجوع الضمير على المشركين بمكة، والمعنى: لما قام الرسول يعبد الله وحده مخالفاً للمشركين في عبادتهم الآلهة من دونه، كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه متراكمين.
قوله: ((لِبَدًا)) جمع لبد، وهو ما تلبد بعضه على بعض، يعني: طبقات بعضها فوق بعض، ومنها لبدة الأسد وهو شعر زبرة الأسد.