يقول تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ} [المعارج:5 - 14].
يقول تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}، يعني: على ما يقولون، ولا يضق صدرك فقد قرب الانتقام منهم.
{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ} أي: يرون العذاب الدنيوي أو الأخروي (بعيدا) أي: بعيداً وقوعه؛ لعدم إيمانهم بوعيده تبارك وتعالى.
{وَنَرَاهُ قَرِيبًا} أي: قريب الحضور.
{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} يعني: كالشيء المذاب، أو عكر الزيت الذي يكون في الطبقة السفلى منه إذا كان في إناء، فهذا العكر الذي يخالط الزيت هو المراد بالمهل هنا.
(ويوم) ظرف يعني: قريباً.
((وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ)) يعني: كالصوف.
{وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} يعني: لا يسأل قريبٌ قريباً عن فعله لشغله بفعل نفسه، فكل إنسان مشغول ومهتم بأمر نفسه، حتى الحبيب الذي هو في غاية الود والمحبة لمن يحب فإنه يقول: نفسي نفسي.
{يُبَصَّرُونَهُمْ} يعني: يعرفون أقرباءهم، ومع ذلك يفر بعضهم من بعض؛ إذ قد يقول قائل: ربما يكون المقصود من قوله تعالى: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} أن بعضهم يحجب عن بعض، فلذلك ينشغل بحاله ولا يسأل عن أحوال حميمه وقريبه، فكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يدفع هذا التوهم ببيان شدة هذا الموقف، فقال: ((يبصرونهم)) أي أنهم سوف يعرفون أقرباءهم، ومع ذلك يفر بعضهم من بعض.
وفيه تنبيه على أن المانع من هذا السؤال هو الاندهاش مما نزل لا احتجاب بعضهم عن بعض، فهم يرون بعضهم بعضاً، بل يعرف بعضهم بعضاً، فهذا أبوك، وهذا أخوك، وهذا صديقك الحميم، فيبصرونهم، وسوف يرونهم ويعرفون أقرباءهم، ومع ذلك يفر بعضهم من بعض ولا يسأل حميم حميماً.
{يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} أي: الذين هم محل شفقته، أي: يود الكافر أن يقع أولاده في العذاب فداءً عنه؛ رغم الشفقة المعروفة عند الأب على أولاده.
{وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} أي: التي هي أحب إليه ((وأخيه)) الذي يستعين به في النوائب، ((وفصيلته)) أي: عشيرته ((التي تؤويه)) أي: تضمه إليها عند الشدائد.
{وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ} يعني: يود أن يبذل ذلك ويضحي بكل هؤلاء في سبيل أن ينجيه هذا الافتداء، أو ينجيه هذا المذكور، أو ينجيه كل من في الأرض.
و (ثم) هنا للاستبعاد، أي: لاستبعاد أن ينجو حتى لو افتدى بمن في الأرض جميعاً.
فإذاً الفعل هنا (ثم ينجيه) معطوف على (يفتدي) أي: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} بكذا وكذا ثم ينجيه، أي: ثم مقابل هذه الفدية ينجو من العذاب.