قال تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2].
قوله: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) أي: قدر الموت والحياة، فأمات من شاء وما شاء، وأحيا من أراد وما أراد إلى أجل معلوم، أو أوجد الحياة وأزالها حسبما قدَّر.
قوله: ((لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)) يعني: ليختبركم فيعلم أيكم أحسن عملاً، كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31]، فيقدر هنا (فيعلم) أي: علم وقوع، علم مكاشفة وليس علم غيب؛ لأن مثل هذا يتعلق بالأشياء بعد وجودها، وهي تقع موافقة لما سبق في علم الله تبارك وتعالى من المقادير.
قوله: ((وَهُوَ الْعَزِيزُ)) أي: الغالب الذي يقهر من أساء العمل.
قوله: (الغفور) أي: لذنوب من أناب إليه وأحسن العمل.
وقد قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وقال هنا في سورة الملك: ((لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا))، فهذا دليل على الحكمة من خلق الموت والحياة.
أما تقديم الموت على الحياة فهو كما قدم الإناث في قوله تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى:49]، وقيل: إن تقديم الموت هنا؛ لأن الأصل العدم، ثم بعد ذلك جاءت الحياة، والله تعالى أعلم.
وقال سبحانه: ((لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)) ولم يقل: ليبلوكم أيكم أكثر عملاً؛ لأن العبرة بالإحسان في العمل لا بكثرته، وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم معنى الإحسان في حديث جبريل المشهور حينما سأله: (ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فهذا هو معنى الإحسان المذكور في قوله: ((أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)).
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: جعل للعالم موتتين وإحياءتين، وبينه بقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:28]، وهذه الآية الكريمة تدل على أن الموت أمر وجودي لا عدمي كما زعم الفلاسفة؛ لأنه لو كان عدمياً لما تعلق به الخلق، فالموت مخلوق، ودليله قوله تعالى: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ)) يعني: أن الله خلق هذا الموت.