تفسير قوله تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما)

قال تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4].

أشار تعالى إلى غضبه لنبيه صلى الله عليه وسلم مما أتت به إحدى نسائه من إفشاء السر إلى صاحبتها، ومن مظاهرتهما على ما يقلق راحته، وأن ذلك ذنب تجب التوبة منه، فقال عز وجل: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}.

قوله: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) أي: إن تتوبا إلى الله فأنتما فعلاً محتاجتان للتوبة؛ لأنكما أتيتما بفعل خطير وعظيم.

(فقد صغت قلوبكما) أي: قد مالت قلوبكما لتحريم مارية، ولأنكما وجدتما فرحاً كبيراً وسروراً عظيماً لما حرم على نفسه سريته، مع كراهة النبي صلى الله عليه وسلم له، وذلك ذنب يستوجب التوبة.

يقول القاسمي في تفسير قوله تعالى: ((إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)): يعني: فقد رجعتما إلى الحق وملتما إلى الحق، وهو ما وجب من مجانبة ما يسخط رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المتظاهرتين على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: عائشة وحفصة.

وفي خطابهما على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب مبالغة، لأن السياق فيما مضى للغائب ((وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ)) ثم يقول: ((إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ)) التفاتاً من الغيبة إلى الخطاب، وهذه مبالغة، فإن المبالغ في العتاب يصير المعاتب مطروداً بعيداً عن ساحة الحضور، ثم إذا استقر به تودد إليه وعاتبه بما يريد.

قوله: ((وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ)) يعني: إن تتظاهرا وتتفقا على ما يسوءه صلى الله عليه وسلم، ((فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)) أي: متظاهرون على من أراد مساءته صلى الله عليه وسلم.

وهذه السورة هي إحدى السور التي تبين عظم مقام النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه عز وجل، فالرسول عليه الصلاة والسلام هو أحب الخلق إلى الله تبارك وتعالى، والأدلة على ذلك كثيرة جداً، فهذا الموضع بالذات منها.

إذاً: فعلينا أن نعرف لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدره، فهذه من حقائق دين الإسلام، ومن حيثيات العقيدة الإسلامية لكل مسلم أن يعرف مقام النبي عليه الصلاة والسلام، وأن له أشرف المقامات عند الله تبارك وتعالى، فتأمل على سبيل المثال هذه الآية، فقوله تعالى: ((وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)) يدل على أن عناية الله بنبيه صلى الله عليه وسلم لم يرق إليها رسول ولا ملك، فما نعلم أن الله سبحانه وتعالى نصر رسولاً على أعدائه بهذه الصورة الرائعة التي نصر بها رسوله في هذه الحادثة، ولقد كان في نصر الله كفاية وغناء: ((فإن الله هو مولاه))؛ ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يظهر مقدار حبه لنبيه صلى الله عليه وسلم ورعايته لجانبه، فجند لنصره جبريل وصالحي المؤمنين والملائكة.

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قوله: ((وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)) أي: متظاهرون على من أراد مساءته، فماذا يفيد تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه؟ ولما كانت الملائكة أعظم المخلوقات وأكثرهم ختم الظهراء بهم؛ ليكون أفخم في التنويه بالنبي صلى الله عليه وسلم وعظم مكانته والانتصار له، إذ هي هنا بمثابة جيش جرار يملأ القفار يتأخر خلف أميره وقائده؛ ليحمل على عدوه ومناوئه.

قوله: ((وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ)) أي: كل المؤمنين الصالحين.

قوله: ((وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)) فهؤلاء هم المنحازون إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم المظاهرون له صلى الله عليه وآله وسلم.

يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)) صغا: مال ورضي وأحب.

لم يقل: قد صغا قلباكما، وإنما قال: ((فقد صغت قلوبكما)) بالجمع مع انهما اثنتان وهما حفصة وعائشة رضي الله عنهما، فقيل: إن المعنى معلوم، والجمع أخف من المثنى إذا أضيف، فالمعنى المفهوم أن المقصود حفصة وعائشة بالذات في استعمال الجمع، فلا ضير، ولأن الجمع أخف من المثنى في حالة الإضافة، فقوله: (قلوبكما) أسهل من أن يقول: (فقد صغا قلباكما).

وقيل: هو مما استدل به على أن أقل الجمع اثنان، كما في الميراث في قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء:11] يعني اثنان فصاعداً.

قوله: ((إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)) جواب الشرط في قوله: (إن تتوبا) محذوف تقديره: إن تتوبا إلى الله فذلك واجب عليكما؛ لأن قلوبكما مالت إلى ما لا يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو: إن تتوبا إلى الله فذلك خير لكما.

والمعنى متقارب.

قوله تعالى: ((وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ)) قال أبو حيان: الوقف على (مولاه) وتكون الولاية خاصة بالله، والمظاهرة تكون لمن أتى بعده، ويكون جبريل مبتدأً وما بعده معطوف عليه.

فيقف القارئ على قوله: ((فإن الله هو مولاه)) ثم يستأنف ((وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير)) فالمبتدأ (جبريل) والخبر (ظهير)، وعليه يكون جبريل قد ذكر مرتين؛ بالخصوص أولاً، وبالعموم ثانياً؛ لأن جبريل من الملائكة.

وقيل: إن الوقف على قوله: (وجبريل) معطوفاً على لفظ الجلالة في الولاية، تقول: ((وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ))، ثم تبتدئ بقوله تعالى: ((وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ)) فيدخل جبريل مع الملائكة ضمناً.

فعلى الوقف الأول: يكون قرن صالح المؤمنين بجبريل وبالملائكة؛ تنبيهاً على علو منزلة صالحي المؤمنين وبيان منزلتهم من عموم الملائكة بعد جبريل.

وعلى الوقف الثاني: يكون قد عطف جبريل على لفظ الجلالة في الولاية بالواو ((فإن الله هو مولاه وجبريل))، وليس فيه ما يوهم التعارض مع الحديث في (ثم) إذ محل العطف هو الولاية، وهو قدر ممكن من الخلق ومن الله تعالى؛ لأن الولاية قد تكون من الخلق ومن المخلوق، يقول عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:62] فالنصر يكون من الله ويكون من العباد من باب الأخذ بالأسباب، وقال عز وجل: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة:40]، وقال عز وجل: {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:8]، وقال الله حاكياً عن عيسى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران:52].

وهذا بخلاف ما جاء في الحديث من قول الأعرابي: (ما شاء الله وشئت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أجعلتني لله نداً؟! قل: ما شاء الله وحده) لأن حقيقة المشيئة هي أنها لله وحده كما في قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29] وقوله: {بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد:31]، وقوله: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4].

فإذاً: لا حرج في الوقف على جبريل، والعطف بالواو يدل على أن الموالاة والمناصرة تكون من الله وتكون من جبريل عليه السلام، وهذا يقع.

ومن اللطائف في قوله تبارك وتعالى: ((وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)) يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: إن المتظاهرتين على رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأتان فقط تآمرتا عليه فيما بينهما، فجاء بيان الموالين له ضدهما كل من ذكر في الآية: ((فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير)) ليدل على عظم كيدهن وضعف الرجال أمامهن.

العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى فهم ذلك من قوله تبارك وتعالى: {قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28]، بينما قال في كيد الشيطان: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76].

يقول الشاعر في نفس هذا المعنى: يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنساناً وقد عبر الشاعر أيضاًُ عن ذلك بقوله: ما استعظم الإله كيدهنه إلا لأنهن هن هنه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015