نذكر اختلاف العلماء الأثريين في هذا الشيء الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه، فقد جاءت في ذلك روايات منها: روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال: بل شربت عسلاً عند زينب ابنة جحش، فلن أعود له، وقد حلفت، ولا تخبري بذلك أحداً، فنزلت الآية).
وروى الشيخان أيضاً عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلوى والعسل، وكان إذا صلى العصر دخل على نسائه، فيدنو من كل واحدة منهن، فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فغِرتُ فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت إليها امرأة من قومها عكة عسل، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: أما والله لنحتالن له، فذكرت ذلك لـ سودة فقلت لها: إذا دخل عليك ودنا منك فقولي له: يا رسول الله! أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك: لا، فقولي له: وما هذه الريح التي أجد، فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: جرست نحله العرفط، وإذا دخل علي فسأقول له ذلك، وقولي أنت يا صفية ذلك.
فلما دخل على سودة قالت له مثلما علمتها عائشة وأجابها بما تقدم، فلما دخل على صفية قالت له مثل ذلك.
فلما دخل على عائشة قالت له مثل ذلك، فلما كان اليوم الآخر فدخل على حفصة قالت له: يا رسول الله ألا أسقيك منه؟ قال: لا حاجة لي به! قالت: تقول سودة: والله لقد حرمناه منه، فقلت لها: اسكتي).
يعني عائشة قالت لـ سودة: اسكتي.
والمغافير: صبغ حلو له رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له: العرفط، وفي هذه الرواية أن التي شرب منها العسل حفصة، وفي سابقتها أنها زينب، والاشتباه في الاسم لا يضر بعد ثبوت أصل القصة.
وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (كانت حفصة وعائشة متحابتين، فذهبت حفصة إلى أبيها فتحدثت عنده، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جاريته -في بعض الروايات أنها مارية القبطية - فظلت معه في بيت حفصة، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة، فرجعت حفصة فوجدتها -يعني مارية -في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها وغارت غيرة شديدة، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته ودخلت حفصة، فقالت: قد رأيت من كان عندك، والله لقد سؤتني! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله لأرضينك، فإني مسر إليك سراً فاحفظيه، قالت: ما هو؟ قال: إني أشهدك أن سريتي هذه علي حرام رضاً لك حتى أرضيك، فانطلقت حفصة إلى عائشة فأسرت إليها بذلك، فلما أخبرت بسر النبي صلى الله عليه وسلم أظهر الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم عليه، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:1 - 2] إلى آخر الآيات) وروي أيضاً عن الضحاك قال: (كانت لرسول صلى الله عليه وسلم فتاة يغشاها، فبصرت به حفصة، وكان اليوم يوم عائشة -وكانتا متظاهرتين- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتمي علي ولا تذكري لـ عائشة ما رأيت، فذكرت حفصة لـ عائشة، فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف ألا يقربها أبداً فأنزل الله هذه الآية وأمره أن يكفر يمينه ويأتي جاريته).
وروى النسائي عن أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله هذه الآية).
ولم يرجح ابن جرير أحد السببين المرويين في نزولها على الآخر، بل وقف على إجمال الآية على عادته في أمثالها، ولذا قال: والصواب أن يقال: كان الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئاً كان الله قد أحله له، وجائز أن يكون ذلك جاريته، وجائز أن يكون شراباً من الأشربة، وجائز أن يكون غير ذلك، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه ما كان قد أحله له، وبين له تحلة يمينه.