التنبيه الأول: قد عرفنا الارتباط الموضوعي بين الآيات في الجزء الأول من السورة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:2 - 4]، ثم قال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} [الجمعة:5] وتكلمنا عن الارتباط بين هذه وبين ما قبلها: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5] إلى قوله تبارك وتعالى: ((قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا))، ثم قال تعالى بعد قوله: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} [الجمعة:8] إلى آخر الآية، ثم ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)).
يقول الرازي: وجه تعلق آية الجمعة بما قبلها، هو أن الذين هادوا يفرون من الموت بمتاع الدنيا وطيباتها، والذين آمنوا يبيعون ويشرون بمتاع الدنيا وطيباتها كذلك، فنبههم الله تعالى بقوله: ((فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)) إلى ما ينفعهم في الآخرة وهو حضور الجمعة؛ لأن الدنيا وما فيها فانية، والآخرة وما فيها باقية، قال تعالى: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17].
ووجه آخر في التعلق، قال بعضهم: قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث: افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه، فكذبهم بقوله: ((فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ))، وافتخروا بأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم، فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً، وافتخروا بالسبت وأن ليس للمسلمين مثله فشرع الله للمسلمين يوم الجمعة.
قال المهايمي في وجه المناسبة: بيَّن تعالى أن مقتضى الإيمان الاجتماع على الخير، لاسيما الشكر على الإنسانية؛ لئلا تنقلب حمارية أو بهيمية، في مقابلة اجتماع أهل الكتاب على الشر الذي جرهم إلى الحمارية أو البهيمية.
التنبيه الثاني: وقال السيوطي في الإكليل في قوله تعالى: ((إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)): فوائد الآية باختصار: مشروعية صلاة الجمعة والأذان لها، والسعي إليها، وتحريم البيع بعد الأذان، واستدل بالآية من قال: إنما يجب إتيان الجمعة على من كان يسمع فيها النداء، واستدل بها من قال: لا يحتاج إلى إذن السلطان؛ لأنه تعالى أوجب السعي ولم يشترط إذن أحد، ومن قال: لا تجب على النساء لعدم دخولهن في خطاب الذكور.
وقال في الإكليل في قوله تعالى: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ)) فيها إباحة الانتشار عقب الصلاة فيستفاد منه تقديم الخطبة عليها.
ونحن نعرف أن صلاة الجمعة لابد لها من خطبة، والدليل على وجوب الخطبة من السورة قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11] لولا أن حضور الخطبة والإنصات إليها واجب، لما عاب الله تركهم للخطبة؛ لأن قوله: ((وَتَرَكُوكَ قَائِمًا)) أي: قائماً في حال الخطبة.
وأيضاً يؤخذ من هذا: أن الأصل في الإمام أن يخطب خطبة الجمعة قائماً.
كذلك يؤخذ منها: تقديم الخطبة على الصلاة، بدليل قوله تعالى: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ)) بخلاف صلاة العيد فإن الخطبة تأتي بعد الصلاة.
في الجمعة تكون الخطبة أولاً ثم الصلاة ثم الانتشار، وهذا هو الذي يفهم من الآية: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ)) أي: يفهم أن الخطبة تكون مقدمة على الصلاة؛ لأنه لا يشرع بعد أدائها صلاة ما، غير أنه صلى الله عليه وسلم كان يتنفل بعدها في بيته ركعتين أو أربعاً، وأما اعتقاد فرضية الظهر بعدها إذا تعددت فتعصب مذهبي لا برهان له.
يقول القاسمي: الحاجة في هذه الأوقات تدعو إلى أكثر من جمعة، إذ ليس للناس جامع واحد يسعهم ولا يمكنهم إقامة جمعة واحدة أصلاً، إلا أن خروجها إلى حد أن لا فرق بينها وبين بقية الصلوات في كثير من المساجد الصغيرة، التي لم تشيد لمثلها قد هول فيه السبكي في فتاوية؛ لأنه مما تأباه مشروعيتها وما مضى عليه عمل القرون الثلاثة، بل تسميتها جمعة على وزن وصيغة (فُعلة) في اللغة للمبالغة، وبالجملة فالجوامع الكبار التي تؤمها الأقوام يوم الجمعة، ويحتاج لإقامتها فيها حاجة بينة لمجاوريها، هي التي لا خلاف في جوازها مهما تعددت والتي لا تعاد الظهر بعدها.
التنبيه قبل الأخير: يدل قوله تعالى: ((وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)) على عدم مشروعية تعطيل يوم الجمعة، ففيه تعريض بمجانبة التشبه بأهل الكتاب في تعطيل يومي السبت والأحد، والأصل أن كل ما لم ينص عليه الكتاب الحكيم ولا الهدي النبوي فهو تشريع ما لم يأذن به الله، وإذا رفع الله بفضله عنا الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا، فما بالنا نستدرها إلينا بالأسباب الضعيفة، اللهم غفراً.
إذاً: التحذير من التشبه باليهود أو بالنصارى وبالذات اليهود في موضوع يوم السبت؛ لأن بعض المسلمين قد يلزم نفسه بأشياء أو يمتنع عن فعل أشياء يوم الجمعة تعظيماً ليوم الجمعة، مثلاً: بعض النساء قد تمتنع من غسيل الملابس أو تنظيف البيت يوم الجمعة، فهذا فيه تشبه باليهود الذين يمتنعون عن الأعمال يوم السبت، ويجعلون ذلك من تعظيم يوم السبت، فمن ثم استحب بعض العلماء الشروع في التجارة والعمل عقب صلاة الجمعة مباشرة؛ امتثالاً لقوله تعالى: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ)).
التنبيه الأخير: قال في الإكليل في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11]: يؤخذ منه مشروعية الخطبة والقيام فيها واشتراط الجماعة في الصلاة، وسماعهم الخطبة، وتحريم الانفضاض، وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: (قدمت عير مرة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلاً، فنزلت: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11]).
وروى ابن جرير عن جابر قال: (كان الجواري إذا نكحوا يمرون بالكبر والمزامير ويتركون النبي صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر وينفضون إليها، فأنزل الله تعالى: ((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا))).
هذا آخر ما تيسر في تفسير سورة الجمعة، والله أعلم.