يقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة:6].
لما ادعت اليهود الفضيلة وقالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] ولو دخلنا النار: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] أي: مدة عبادة آبائهم العجل وهي أربعون يوماً.
وقالوا أيضاً: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]، اختبرهم الله وامتحنهم؛ ليبينوا صدق هذه الدعوى، فقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
هذا رد على عنصريتهم وزعمهم أنهم شعب الله المختار، وأن كل من عداهم من البشر خلقوا كالحمير ليسخرها الله لهم، وقد خطب أحد كبار حاخامات اليهود خطبة وشتم فيها كلينتون بأقبح الشتائم وقال: إنه فاجر وفاسق وعربيد، وإنه فعل كذا وكذا من الأشياء المعروفة عن كلينتون، فعوتب على ذلك وحصل رد فعل شديد يقول: إن كلينتون خدم إسرائيل، فقال: أنا أقر وأعترف بأنه فعل ذلك خدمة لدولة إسرائيل، لكن هذا لأن الله سخره ليخدم شعب الله المختار.
إذاً: عقيدتهم أن كل الدول الأخرى يجب أن تكون خدماً لإسرائيل.
فالشاهد: أن الله سبحانه وتعالى وضعهم في هذا الاختبار لما ادعوا هذه الفضائل كلها.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: كان اليهود يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه، فقيل لهم: إن كنتم صادقين في زعمكم وعلى ثقة من أمركم، فتمنوا على الله أن يميتكم وينقلكم سريعاً إلى الآخرة، فإن الحبيب يتمنى لقاء من يحب ولا يفر منه، ويود أن يستريح من كرب الدنيا وغمومها، ويطير إلى روح الجنان ونعيمها.
فرق بين عقيدة الإنسان وبين إقدامه وشجاعته، فهو يتصف بصفتين: الصبر واليقين، مادام عندهم إيمان بأن لهم الجنة عند الله سبحانه تعالى، فهذا لا شك أنه سيكون له أثر في الإقدام والتضحية في الجهاد؛ لأن المؤمن لو ضرب بصاروخ ونسفه نسفاً، فهو لن يحس قطعاً بألم هذا الانفجار أو الوخز أو الطعنة إلا كلسع نحلة أو بعوضة، ويكون بذلك قد تجاوز الامتحان ونجح؛ لأنه يعلم أن الشهيد تغفر له ذنوبه عند أول دفعة من دمه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن السيف محاء للخطايا).
ففيه تأييد من الله سبحانه وتعالى وضمان، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهْ} [التوبة:111] وكذلك وصفها الله بأنها تجارة: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] فإذاً اليقين بما بعد الموت من الثواب العظيم الذي أعده الله لمن يقتل في سبيله هو الذي يجعل المرء يطلب الاستشهاد، وهو الذي يجعل الموت أحب إليه من الحياة.
وقلنا من قبل: إن هذا هو اللغز المحير، وأعداء الإسلام لم يستطيعوا أن يستوعبوه حتى الآن، فاليهود يقولون: نحن أتينا إلى هذه الأرض لكي نعيش، أما هؤلاء فهم يقاتلون لكي يموتوا، فلذلك يستغربون من الإقدام والشجاعة الناشئة عن اليقين، فيكون اليقين أولاً ثم يأتي بعده الصبر والإقدام والشجاعة.
أما تمني الموت وحبه فإنه يرتبط بما يكون عند الإنسان من الفطرة والجبلة، فتراه يكره الموت، وقد سماه الله مصيبة، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقالت عائشة: كلنا يكره الموت -أي: كراهية فطرية جبلية- فقال: إن العبد المؤمن إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال من الآخرة أتته ملائكة) إلى آخر الحديث المعروف.
فإذا كان عند الإنسان يقين قوي تنكشف له الحجب، كأن يرى الجنة ويرى الحور العين ويرى النعيم المقيم، ويعلم يقيناً أن ذنوبه سوف تمحى عند الله: (إن للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويأمن الفزع الأكبر، ويجار من عذاب القبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه)، كل هذا مضمون إذا بذل نفسه في سبيل الله.
الإنسان مهما عاش فإنه سوف يموت، فلماذا لا يختار أشرف موتة؟! وجود اليقين بما بعد الموت هو الذي يجعل الإنسان يبذل روحه في سبيل الله.
أما الخوف من الموت فإن الإنسان يخاف من لقاء الله سبحانه وتعالى ومحاسبته له على ما فعل، فإذاً: هناك ارتباط بين اعتقاده بالفارق بين الدنيا والآخرة، فإذا كان الإنسان قد خرب الدنيا وعمّر الآخرة فإنه يحب الانتقال من الخراب إلى العمران؛ لكن إذا كان قد عمّر الدنيا وخرّب الآخرة فهو يخاف الانتقال من العمران إلى الخراب، فلذلك كان هذا الارتباط في غاية الدقة وفي غاية القوة والمصداقية.