قوله: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) صلى الله عليه وسلم، وهناك قراءة أخرى وهي: (من بعديَ اسمه).
(فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) أي: بالدلالات التي آتاه الله إياها حججاً على نبوته (قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي: سحر بيِّن.
يقول ابن كثير: فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل، فقد أقام في ملأ بني إسرائيل مذكراً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبوة.
إن كلمة الإنجيل معناها البشارة، يعني: أنه الذي يبشر بمحمد عليه الصلاة والسلام، فالبشارة التي نطق بها عيسى والتي بشر بها حتى وهو في المهد هي المقاصد الرئيسية لرسالة المسيح، فقد بشر بالنبي الآتي للعالمين وهو محمد عليه الصلاة والسلام، فكلمة الإنجيل لها ارتباط بالبشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والإشارة في قوله: ((قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)) إلى ما جاء به، وتسميته سحراً مبالغة، يريد عليه السلام أن ديني هو التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر، فقوله: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ)، هذا فيما تقدم وقوله: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) عليه الصلاة والسلام هذا فيما سيأتي.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: ذكر موسى ولم يذكر معه البشرى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عيسى فذكرها معه، مما يدل بمفهومه على أنه لم يبشر به إلا عيسى عليه السلام، وهذه الطريقة في الاستنباط مبنية على الاحتجاج بمفهوم اللقب، ومفهوم اللقب لا عمل عليه عند الأصوليين، وقد بشر به صلى الله عليه وسلم جميع الأنبياء، ومنهم موسى وإبراهيم عليهما السلام، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (أنا دعوة أبي إبراهيم) يعني قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة:129] وهو محمد عليه الصلاة والسلام.
فجميع الأنبياء -بمن فيهم موسى- بشروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومما يشير إلى أن موسى أيضاً قد بشر به قول المسيح في هذه الآية: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ)، وما بين يديه هي التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام، وكذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157].
وقوله في سورة الفتح: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29] فهذا وصف الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة في التوراة، {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح:29] وهذا يدل أيضاً على أنهم وصفوا في الإنجيل.
وجاء النص في حق جميع الأنبياء في آية آل عمران: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه العهد لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه.
وجاء أيضاً مصداق ذلك في قصة النجاشي لما سمع من جعفر عليه السلام سورة مريم فقال: أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الذي بشر به عيسى عليه السلام، وقال أيضاً: والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي التي رأ) أي: حينما رأت أم النبي عليه الصلاة والسلام نوراً خرج منها أضاءت له قصور الشام.
وهنا خُص عيسى بالنص على البشرى به عليه الصلاة والسلام، لأن عيسى آخر أنبياء بني إسرائيل فهو ناقل تلك البشرى لقومه عمن قبله، وقال أيضاً: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [آل عمران:50]، ومن قبله ناقل عمن قبله، وهكذا حتى صرح بها عيسى عليه السلام وأداها إلى قومه؛ لأن أهم نبي من الأنبياء يشهد لمحمد بالرسالة، ويبشر به هو الذي ليس بينه وبينه نبي، فلابد أن يذكر لهم ذلك قبل أن يغادر الدنيا؛ ففيما مضى كان كل نبي يبلغ البشارة لمن بعده، وكان بين عيسى وموسى أنبياء كثيرون من بني إسرائيل، فكل نبي يحملها إلى من بعده، إلى أن أتى المسيح عليه السلام فصار ذلك في حقه أوكد، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا أولى الناس بعيسى؛ ليس بيني وبينه نبي).
فعيسى خاتم أنبياء بني إسرائيل، ونبينا خاتم الأنبياء على الإطلاق عليه الصلاة والسلام.
وقوله: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) جاء في الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر أسمائه: (أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدميه، وأنا العاقب).
وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه أحمد، وذكر باسمه محمد في أكثر من موضع من القرآن الكريم كما في سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وسورة آل عمران، وذكر بصفات عديدة كقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
وهذا الموضوع -أعني: البشارة بنبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من الموضوعات التي تستحق أن تفرد، وقد أفرد كثيرون في شتى العصور هذا الموضوع بالدراسة المستفيضة، وجرياً منا على سنن الاختصار سنحاول أن نجمل الإشارة إلى بعض هذه البحوث.