بسط الكلام في موضوع الولاء والبراء المتعلق بهذه الآية ابن الوزير في إيثار الحق على الخلق، في المسألة الثامنة، وبعدما أورد الآيات والأحاديث في هذا قال: هذا كله في الحب الذي هو في القلب والمخالطة لأجل الدين؛ وذلك للمؤمنين المتقين بالإجماع، وللمسلمين الموحدين إذا كان لأجل إسلامهم وتوحيدهم عند أهل السنة.
وأما المخالقة، والمنافعة، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك؛ فيستحب بذله لجميع الخلق.
هو هنا يتكلم على قضية الموالاة لمن تكون فيقول: الموالاة التي هي بمعنى الحب الخالص في القلب والإخلاص الشديد في هذا الحب من أجل التوحد في الدين، ومن أجل وحدة العقيدة، فهذه الموالاة مختصة بالمؤمنين المتقين بالإجماع، وللمسلمين الموحدين إذا كان لأجل إسلامهم وتوحيدهم، وأما المخالقة، أي: حسن الخلق، وتبادل المنافع، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك؛ فيستحب بذله لجميع الخلق، أي: أن الإنسان مطالب بحسن الخلق مع كل خلق الله، حتى مع الكافرين، وليس معنى حسن الخلق أنه يحبه بقلبه، بل لابد أن يبغضه بقلبه، لكن حسن الخلق في المعاملة وأداء الحقوق ونحو ذلك.
يقول: وأما المخالقة، والمنافعة، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك؛ فيستحب بذله لجميع الخلق، إلا ما كان يقتضي مفسدة كالذلة، فلا يبذل للعدو في حال الحرب كما أشارت إليه الآية.
أي: إذا كان الوضع كحالة الحرب فإنه لا يصلح أن تسلك هذه المسالك؛ لأنها في حالة الحرب تكون بمعنى التذلل للعدو، والمسلم لا يذل، وأما الشخص الذي لا يكون محارباً للمسلمين فإنه يتعامل معه معاملة حسنة، ولو كان كافراً، وأما المحارب الذي يحارب الله ورسوله، ويقاتل المسلمين فهذا لا يستحق هذه المعاملة، فالمعاملة بحسن الخلق ونحوه إنما تكون لمن لا يحاربوننا في الدين.
قال: وإليه أشارت الآية الكريمة: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} [الممتحنة:8 - 9].
قال: أما التقية فتجوز للخائف من الظالمين القادرين.
أي: لأنه قد يكون الإنسان ظالماً ولكنه لا يقدر على إنفاذ ظلمه، أما إذا كان ظالماً وقادراً على الأذية فهذا لك أن تتقي منه.
قال: وأما الفرق بين ما يجوز من المنافعة والمداهنة وما لا يجوز من الرياء: فما كان من بذل المال والمنافع فهو جائز، وهو المنافعة، وربما عبروا عنه بالمداهنة والمداراة والمخالقة، وما كان من أمر الدين فهو الرياء المحرم.
ومن كلام الإمام يحيى بن المحسن في كتابه (الرسالة المخرسة لأهل المدرسة)، يقول: لا يجوز أن تكون الموالاة هي المتابعة فيما يمكن التأويل فيه؛ لأن كثيراً من أهل البيت عُرف بمتابعة الظلمة لوجه يوجب ذلك، فتولى الناصر الكثير منهم وصلى بهم الجمعة جعفر الصادق، وصلى الحسن السبط على جنائزهم، وذكر المهدي أن الموالاة المحرمة بالإجماع هي موالاة الكافر لكفره والعاصي لمعصيته ونحو ذلك.
والحجة على صحة الخلاف فيما عدا ذلك أشياء كثرة: منها قول الله تعالى في الوالدين المشركين بالله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] فأمر الله سبحانه وتعالى ببر الوالدين وإن كانا مشركين، وقال عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] فانظر إلى هذين الوالدين: فهما مشركان، ويدعوان ولدهما إلى الإشراك، بل ويجاهدانه في سبيل الإشراك، ويبذلان أقصى ما في وسعهما لأجل فتنته عن دينه وإدخاله في الشرك، ومع ذلك يقول الله تعالى: ((فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا))، وقال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8] إلى آخر الآية.
وفي الحديث أنها نزلت في قتيلة أم أسماء بعد آيات التحريم، وسوف يأتي ذلك بالتفصيل.