قوله: ((أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ)).
أي: ما يخرجونكم إلا لأنكم آمنتم بالله ربكم، فلم تظلموهم، ولم تبخسوهم حقاً، ولم تؤذوهم في شيء، وإنما الأمر كما قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] فالجريمة إذاً هي الإيمان بالله عز وجل، والمعنى: يخرجونكم لإيمانكم بالله الجامع للكمالات المقتضية انقياد الناقص له، لاسيما باعتبار اتصافه بكونه رباكم بالكمالات، فهي في الحقيقة عداوة مع الله عز وجل، فقوله: ((أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ)) أي: ربكم الذي أحسن إليكم، وغذاكم بنعمه، وأفاض عليكم من خيراته، فهم ما نقموا منكم إلا أن تؤمنوا بالله ربكم.
قال ابن كثير: هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم، فهذه الأسباب الثلاثة المذكورة في الآية كلها مما يهيج المؤمنين ويوقظ في قلوبهم عداوة الكفار، وعدم موالاتهم، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ)) هذه واحدة، ((يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ)) وهذه الثانية، وثالثاً: ((أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ)) بسبب إيمانكم؛ لأنهم أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من بين أظهرهم كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده؛ ولهذا قال تعالى: ((أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ)) أي: لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين كقوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]، وكقوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40].
ثم يقول تبارك وتعالى: ((إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي)) أي: بالجهاد في طريقي الذي شرعته لكم، وديني الذي أمرتكم به، والتماس رضائي عنكم الذي لا ثواب فوقه، والشرط متعلق بقوله: ((لا تَتَّخِذُوا)) أي: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي.
فقوله هنا: ((إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي)) هذا شرط، وجوابه متقدم، أي أن الكلام فيه تقديم وتأخير، فيكون تفسير الآية هكذا: إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء.
وهناك قول آخر: وهو أن في الكلام حذفاً، أي: إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تلقوا إليهم بالمودة.
وقوله تعالى: ((تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ)) الباء في قوله: (بالمودة) كالباء في لفظة (بالمودة) السابقة في قوله: ((تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ))، فـ (تسرّون) بدل من قوله تبارك وتعالى: ((تُلْقُونَ))؛ لأن الأفعال تبدل من الأفعال، وذلك مثل قوله تعالى في سورة الفرقان: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:68 - 69] وقول الشاعر: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا ((تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ)) أي: من المودة معهم وغيرها، ((وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ)) والهاء تعود إلى المصدر نفسه وهو الإسرار، فمع أن المذكور هو الفعل لكن يفهم منه المصدر، ((وَمَنْ يَفْعَلْهُ)) أي: الإسرار والإلقاء إليهم بالمودة، أو الإسرار إليهم واتخاذهم أولياء.
((فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)) أي: جار عن السبيل السوي الذي جعله الله سبحانه وتعالى هدى ونجاة.
وقد أشرنا أن هذا السياق كله نزل في شأن حاطب بن أبي بلتعة، فقد وقع منه هذا الأمر، وهو إخبار الكفار بسر الرسول عليه الصلاة والسلام لعلة سوف نبينها، مع أن حاطباً رضي الله عنه من أهل بدر، وله فضل عظيم جداً، لكن كل هذا السياق كما نلاحظ يؤخذ منه معاتبة حاطب رضي الله تعالى عنه.
فقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) خطاب للمؤمنين، لكن سبب نزولها في حاطب.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1] فالمعاتبة من الله سبحانه وتعالى لـ حاطب رضي الله عنه، وهي في حد ذاتها تدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق إيمانه؛ لأن المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيبه، وأما الشخص الذي تيئس منه فإنك تطرحه ولا تبالي بما فعل؛ لأن شأنه لا يهمك، أما الشخص الذي بينك وبينه مودة فهذا الذي يستحق أن تعاتبه، ولذلك يقول الشاعر: أعاتب ذا المودة من صديق إذا ما رابني فيه اجتناب إذا ذهب العتاب فليس ود ويبقى الود ما بقي العتاب يعني: يبقى الود إذا كان هناك أمل في هذا الشخص ومحبة، فيستحق أن تعاتبه، أما إذا ارتفع العتاب فهذا يعني ارتفاع المحبة أصلاً.