قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]، وهذه هي الصورة الثالثة النظيفة الرضية الواعية، وهي تبرز أهم ملامح التابعين، كما تبرز أخص خصائص الأمة المسلمة على الإطلاق في جميع الأوطان والأزمان، فهؤلاء هم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار، ولم يكونوا قد جاءوا بعدُ عند نزول الآية في المدينة، وإنما كانوا قد جاءوا في علم الله، وفي الحقيقة القائمة في هذا العلم المطلق من حدود الزمان والمكان، وقيمة نفوسهم أنها تتوجه إلى ربها في طلب المغفرة لا لذاتها فحسب، ولكن أيضاً لسلفها الذين سبقوا بالإيمان، وفي طلب براءة القلب من الغل للذين آمنوا على وجه الإطلاق ممن يربطهم معهم رباط الإيمان، مع الشعور برأفة الله ورحمته، ودعائه بهذه الرحمة وتلك الرأفة ((رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)).
وتتجلى الآصرة القوية الوثيقة التي تربط أول هذه الأمة بآخرها، وآخرها بأولها، في تضامن، وتكافل، وتواد، وتعاطف، وشعور بوشيجة القربى العميقة التي تتخطى الزمان والمكان والجنس والنسب، وتتفرغ وحدها في القلوب؛ لتحرك المشاعر خلال القرون الطويلة، فيذكر المؤمن أخاه المؤمن بعد القرون المتطاولة كما يذكر أخاه الحي أو أشد، في إعزاز وكرامة وحب، ويحسب السلف حساب الخلف، وينفي الخلف على آثار السلف، صفاً واحداً، وكتيبة واحدة على مدار الزمان، واختلاف الأوطان، تحت راية الله تغذ السير صعداً إلى الأفق الكريم، متطلعة إلى ربها الواحد الرؤوف الرحيم.
إنها صورة باهرة تمثل حقيقة قائمة، كما تمثل أرفع وأكرم مثال للبشرية يتصوره قلب كريم، صورة تبدو كرامتها وبراءتها على أتمها حين تقرن مثلاً إلى صورة الحقد الذميم، والهدم اللئيم التي تمثلها وتبشر بها الشيوعية في إنجيل (كارل ماركس)، وصورة الحقد الذي ينزل في الصدور، وينشر في الضمير على الطبقات، وعلى أجيال البشرية السابقة، وعلى أممها الحاضرة التي لا تعتنق الحقد الطبقي الذليل، وعلى الإيمان والمؤمنين من كل أمة وكل جيل.
صورتان لا التقاء بينهما في لمحة ولا سمة، ولا لمسة ولا ظل: صورة ترفع البشرية إلى أعلى مراتبها، وصورة تهبط بها إلى أدنى دركاتها، صورة تمثل الأجيال من وراء الزمان والمكان والجنس والوطن والعشيرة والنسب، متضامنة، مترابطة، متكافلة، متوادة، متعارفة، صاعدة في طريقها إلى الله عز وجل، بريئة الصدور من الغل، طاهرة القلوب من الحقد، وصورة تمثل البشرية أعداء متناحرين، يلقى بعضهم بعضاً بالحقد والدخل والدغل والغش والخداع والالتواء، وحتى وهم في المعبد يقيمون الصلاة، فالصلاة ليست سوى أحبولة، والدين كله ليس إلا فخاً ينصبه أصحاب رأس المال للكادحين.
قال تعالى: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ))، فهذه هي قافلة الإيمان، وهذا هو دعاء الإيمان، وإنها لقافلة كريمة، وإنه لدعاء كبير.